فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} قالَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَخَرَجَ زَكَرِيّا ـ عليْهِ السَّلامُ، عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مُصَلَّاهُ. وَالْمِحْرَابُ: بَيْتٌ أَوْ مُحْتَجَرٌ يُخَصَّصُ لِلْعِبَادَةِ الْخَاصَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ لِيُصَلِّيَ فِيهِمْ إِمامًا كَعَادَتِهِ، فَقَدْ كَانَ في مِحْرابِهِ يُؤَدِّي صَلَاتَهُ الخَاصَّةَ بِهِ، ويَدْعوا ربَّهُ "دُعَاءً خَفِيًّا" بَيْنَهُ وبَيْنَ مَوَلَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ لِيُصَلِّي فيهِم صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ المُعْتَادَةِ ، لأَنَّهُ إِمامُهمْ وحَبْرُهمُ الْأَعْظَمُ.
وَقدْ ضُمِّنَ الفِعْلُ "خَرَجَ" مَعْنَى الفعلِ "طَلَعَ" ولِذَلَكَ فَقَدْ عُدِيَّ بِحَرَفِ الجَرِّ "عَلى" ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سُورَةِ القَصَصِ: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} الآيةَ: 79.
قوْلُهُ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ أَشارَ إِلَيْهِمْ، لما تقدَّمَ في الآيةِ التي قبلَها قولُهُ تعالى: {قالَ آيتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سَوِيَّا} فقدْ كانَ ممنوعًا مِنْ أَنْ يُكلِّمَ النَّاسَ عَلامَةً عَلَى حَمْلِ زَوْجِهِ بِوَلَدِهِ يَحْيَى ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ.
والْوَحْيُ: الْإِشَارَةُ ـ بِالْعَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالْإِيمَاءُ لِإِفَادَةِ مَعْنًى شَأْنُهُ أَنْ يُفَادَ بِالْكَلَامِ. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الإِشَارَةِ أَيْضًا قوُلُهُ تَعَالَى منْ سورةِ آلِ عِمْرانَ: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} الآيَةَ: 41. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "يُريدُ: أَشَارَ إِلَيْهم". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "فَأَوْحَى إِلَيْهِم": فَأَشَارَ إِلَيْهمْ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وروَى الطَبَرِيُّ عنْ مُجاهِدٍ أيضًا أَنَّهُ قالَ: كَتَبَ إِلَيْهمْ في الأَرْضِ. وهوَ قَوْلُ الحَكَمِ، وإِبْراهيمَ النَّخَعِيِّ.
وأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القَرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا": أَشَارَ إِلَيْهِم إِشَارَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ": أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ.
قوْلُهُ: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أَيْ: أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُثابِرُوا عَلَى ما اعْتَادُوهُ مِنَ التَّسْبِيحِ، فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحوا" أَيْ: صَلُّوا. وَأَخَرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "بُكْرَةً وَعَشِيًّا" قَالَ: أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "فَأَوْحَى إِلَيْهِم أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا" قَالَ المُرادُ بِـ: "بُكْرَةً": صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَبِـ "عَشِيًّا": صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ أَرَادَ أَنْ يُسَبِّحُوا اللهَ تَسْبِيحَ شُكْرٍ لأَنْهُ وَهَبَ نَبِيَّهُمُ ولَدًا ذكّرًا يَرِثُ عنْهُ النُّبُوَّةَ والعِلْمَ، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا قد عَلِمُوا مِنْ قبلُ تَرَقُّبَهُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ لهُمْ عِنْدَ زَوالِ حَبْسَةِ لِسَانِهِ. وهوَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلةِ قولِهِ تَعَالَى: "فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ" السَّابِقَةِ، لِأَنَّ "أَوْحَى" هُنَا بِمَعْنَى "قَالَ".
وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكَلِّمْهُمْ قَدْ نَذَرَ صَمْتًا فَيَقْتَدُوا بِهِ فَيَصْمُتُوا مِثْلَهَ، وَكَانَ الصَّمْتُ مِنْ الْعِبَاداتِ المَعْروفَةِ المَعْمُولِ بِها عِنْدَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ ـ إِنْ شاءَ اللهُ، عِنْدَ تَفْسيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 26، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.
قولُهُ تَعَالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "خَرَجَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فِيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ "زَكَرِيّا" عَلَيْهِ السَّلامُ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَرَجَ"، و "قَوْمِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مَضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ أَيْضًا بِـ "خَرَجَ"، و "الْمِحْرَابِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} الفاءُ: للعَطْفِ، و "أَوْحَى" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ، لَتَعَذُّرِ ظُهورِهِ على الأَلِفِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى سيِّدِنا "زَكَرَيّا" عليْهِ السَّلامُ. و "إِلَيْهِمْ" إِلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوْحَى"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّر. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "خَرَجَ" على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أَنْ: مُفَسِّرَةٌ لِـ "أَوْحَى"، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً مَفْعُولَةً بِالإِيحاءِ عَلَى تَقْديرِ الباءِ أَيْ: "بِأَنْ". و "سَبِّحُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. ومفعولُهُ مُقدَّرٌ بـ "اللهَ". و "بُكْرَةً" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَبِّحُوا"، وقَدِ انْصَرَفَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا العَلَمِيَّةُ، فَلَوْ قُصِدَ بِهَا العَلَمَيَّةُ امْتَنَعَتْ عَنِ الصَّرْفِ. وَسَواءً قُصِدَ بِهَا وَقْتٌ بِعَيْنِهِ، نَحْوَ قولِكَ: لَأَسِيرَنَّ اللَّيْلَةَ إِلَى بُكْرَةَ، أَمْ لَمْ يُقْصَدْ، نَحْوَ: بُكْرَةُ وَقْتٌ نَشَاطٌ، لأَنَّ عَلَمِيَّتَها جِنْسِيَّةٌ كَ "أُسامَةَ"، وَمِثْلُها فِي ذَلِكَ كُلِّهِ "غُدْوَةً". وَ "عَشِيًّا" مِثْلُ "بُكْرةً" معطوفٌ عليْهِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِـ "أَوْحَى" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، أَوْ هيَ في مَحَلِّ الجَرِّ بِباءٍ مُقَدَّرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِـ "أَوْحَى".
قَرَأَ الجُمهورُ: {سبِّحوا} بإضمارِ المفعولِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ: "سَبَّحُوهُ" بِهَاءِ الكِنَايَةِ. ورُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: "سَبِّحُنَّ" بِإِسْنادِ الفِعْلِ إِلى ضَميرِ الجَمَاعَةِ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ الثَّقيلَةِ، وهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ هودٍ ـ علَيْهِ السَّلامُ: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} الآيةَ: 8.