قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ نُخْبِرُكُمْ بِالَّذِينَ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا، وَأَضْيَعُهَا، وَالْمُرَادُ بـ "الْأَخْسَرين" هُنَا: غَبْنُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ فِي حُظُوظِهِمْ مِمَّا عِنْدَ اللهِ ـ تَعَالَى، لَوْ أَنَّهم أَطَاعُوهُ، وهيَ صِيَغَةُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْخُسْرَانِ، وَأَصْلُهُ نَقْصُ رأْسِ مَالِ التَّاجِرِ خلالَ عَمَلِهِ فِي التِّجَارةِ، مِنْ بيعٍ وشِراءٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ بْنِ أَبي وقَّاصٍ ـ رَضِي اللهُ عنهما، قَالَ: سَأَلْتُ أِبِي: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا" أَهُمُ الحَرَورِيَّةِ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَذَّبُوا بِالْجنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. والحَرُورِيَّةُ الَّذينَ يَنْقُضونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. وَكَانَ سَعْدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. صَحيحُ البُخاريُّ برقم: (4728). وَ "جَامِعُ البَيَانِ" لابْنِ جَريرٍ الطَّبَرِيِّ: (15/425)، و "السُّنَنُ الكُبْرَى" للنَّسَائيِّ برَقَم: (11313)، و "المُسْتَدْرَكُ" للحَاكِمِ: (2/370). وَفي روايةٍ أُخْرَى لَهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبي ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا" الحَرُورِيَّةُ هُمْ قَالَ: (لَا، وَلَكِنْ أَصْحَابُ الصَّوامِعِ والحَرُورِيَّةُ قَوْمٌ زَاغُوا فَأَزاغَ اللهً قُلُوبَهُمْ). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِم، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ النَيْسابورِيِّ، وَابْنِ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي خَميصَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا" إِنَّهُمُ الرُّهْبانُ الَّذينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَارِي.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدَوَيْهِ عَنْ أَبي الطُّفَيْلِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَواءِ فَقَالَ: مَنْ "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا" قَالَ: فَجَرَةُ قُرَيْشٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا" قَالَ: لَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّ الْخَوَارِجَ مِنْهُم.
والجملةُ اعْتِرَاضٌ بِاسْتِئْنَافٍ ابْتِدَائِيٍّ أَثَارَهُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ ... وَافْتُتِحتُ بِـ "قُلْ" لِلَفْتِ انْتِبَاهِ السَّامِعِينَ واهْتِمَامَهم بِالإِصْغَاءِ لمَضْمونها، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِافْتِتَاحِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ثمَّةَ غَرَضٌ مُهِمٌّ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وجوبًا تَقْديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، والجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "هَلْ" حَرْفُ اسْتِفْهامِ للاسْتِعْلام. و "نُنَبِّئُكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازم، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلى المُتَكَلِّمِ ـ سُبْحَانَهُ، أَوْ عَلَى المَأْمُورِ بالكَلامِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ نَصْبِ المَفْعولِ الأَوَّلِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. وَ "بِالْأَخْسَرِينَ" الباءُ: حرفُ جرٍّ داخِلَةٌ عَلى مَضْمُونِ المَفْعُولَيْنِ الثاني وَالثالِثِ، و "الْأَخْسَرِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وَجُمْلَةُ "نُنَبِّئُ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِـ "قُلْ" و "أَعْمَالًا" منصوبٌ على تَمْيِيزِ "الأَخْسَرينَ". وَجُمِعَ التَمْييزُ والأَصْلُ فِيهِ الإِفْرادُ، لِمُشَاكَلَةِ المُمَيَّزِ، وَإيذانًا بِأَنَّ خُسْرَانَهم، إِنَّما كانَ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى، وأعمالٍ متعدِّدةٍ لَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، أوْ عملٍ واحِدٍ.