الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} الَّذينَ: هَذَا الاسْمُ المَوْصولُ يُشيرُ إِلَى سَبَبِ اخْتِصاصِهِمْ بِعَرْضِ جهنَّمَ عَلَيْهِم المتقدِّمِ في الآيةِ التي قَبْلَها؛ لأَنَّهُم ما رَأَوْهَا بِعَيْنِ الاعْتِقَادِ في حياتِهِمُ الدُنيا، ولا اسْتَمَعوا إِلى ذِكْرِها بِأُذُنِ الإِنْصاتِ للْحَقِّ. أَيْ: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ رُؤْيةِ آياتي التي يُنْظَرُ إِلَيْهَا، فَلَا يَذْكُرونَني بِالتَوْحِيدِ وَالتَعْظِيمِ.
قولُهُ: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أَيْ: لِآياتِهِ فِي الكَوْنِ وَدَلائِلِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَى إِعادَتِهِمْ كَمَا بَدَأَهُمْ، فَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي عَدَمِ إِدْراكِهمْ للْحَقِّ مِنْ آياتِ اللهِ تَعَالَى بِحَالِ مَنْ يَكونُ أَمَامَ المُبْصَرَاتِ، وَلَكِنَّهُ وَضَعَ عَلَى عَيْنَيْهِ غِطاءً يَجْعَلُهُ لَا يَرَى وَلَا يُبْصِرُ، وَلإِفْراطِ صَمَّهم آذانَهم عَنِ سَماعِ الحَقِّ، سَمَاعَ إِنْصافٍ لَهُ وانْتِفاعٍ بِهِ، فقَدْ كانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمَاعَ القُرْآنِ الكريمَ، وذِكْرَ الإلَهِ العَلِيِّ العَظيمِ وَكَلامَهُ، لِأَنَّ الأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطيعُ السَّمْعَ إِذا صِيحَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْقَهُ شَيْئًا مِنْهُ، وَكَأَنَّ هَؤُلاءِ الكافرينَ، قَدْ أُصِمَّتْ مَسَامِعُهُمْ بِالكُلِّيَّةِ. وَذَلِكَ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَكَرَاهِيَتِهِمْ لِدينِ اللهِ تَعَالَى، دِينِ النُّورِ وَالهُدَى وَالحَقِّ، والمُسَاواتِ وَالْعَدْلِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "الَّذينَ كَانَت أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا" قَالَ: كَانُوا عُمْيًا عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرونَهُ، صُمًّا عَنْهُ، فَلَا يَسْمَعُونَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا" قَالَ: لَا يَعْقِلُونَ سَمْعًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
لِأَنَّ ظُلْمَةَ الكُفْرِ تَسْتُرُ نُورَ القَلْبِ وتَحْجُبُهُ، فيُحْجَبُ بِذَلِكَ نُورُ كُلِّ حَاسَّةٍ مِنْ حَوَاسِّ الإِنْسانِ، كَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا؛ إِذْ لِكُلِّ حَاسَّةٍ مِنْ هَذِهِ الحَوَاسِّ نُورٌ وَضِياءٌ، فَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ الحَقَّ وَالحُجَّةَ إِلَا بِهِمَا جَمِيعًا: نُورُ الظاهِرِ، ونُورُ الباطِنِ، فَإِذا سَتَرَ الكُفْرُ نُّورَ الباطِنِ، لَمْ يُبْصِرِ الحَقَّ وَلَمْ يَنْظُرِ العِبَرَ، ولَمْ يَتَفَكَّرْ، وَلَمْ يَتَجَلَّى لَهُ الحَقُّ بِنُورِ الظاهِرِ. كَمَا لِلإيمانِ نُورٌ وَضِيَاءٌ، يُبْصَرُ بِهِما، وَيُسْمَعُ، وَيُرْفَعُ بِهِما للمُؤْمِنِ غِطاءُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَنْجَلِيَ لَهُ الحَقُّ، وَيَعْرِفَ بِهِ حُسْنَ كُلِّ حَسَنٍ، وَقُبْحَ كُلِّ قَبيحٍ. إِذًا فَالإِنْسانُ لا يَرَى الأَشْيَاءَ إلَّا بِنُورِ البَصَرِ وَنُورِ الهُدَى، وَإِنَّما يَعْرِفُ الشَّيْءَ، وَتَظْهَرُ لَهُ حَقيقَتُهُ بِنُورَيْنِ: نُورِ القَلْبِ ونُورِ الحَوَاسِّ، فَإِذا غَطَّتْ ظُلْمَةُ الكُفْرِ نُورَ القَلْبِ، صَارَ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَلَا يَعْتَبِرُ، وَلَا يَسْمَعُ، وَلَا يَنْطِقُ بِالحَقِّ وَالإِيمانِ، لِأَنَّهُ إِذا ذَهَبَ أَحَدُهُما صَارَ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُ ولا يَسْمَعُ وَلَا يَرَى شَيْئًا.
قولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةِ التي قَبْلَها: {للْكَافِرِينَ} أَوْ صِفَةً لَهُ، ويَجًوزُ أَنْ يكونَ مَعْطوفًا عَلَيْهِ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا على الذَّمِّ بِإِضْمَارِ "أَذُمُّ"، وَيجوزُ أَنْ يَكونَ مَرْفوعًا على أَنَّهُ خَبَرٌ لمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ. وَ "كَانَتْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ: للتأنيثِ. و "أَعْيُنُهُمْ" اسْمُها مرفوعٌ بها، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي محلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بخبرِ كانَ المَحْذوفِ. وَ "غِطَاءٍ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "عَنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "غِطَاءٍ"، و "ذِكْرِي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ "كانَ" هذِهِ واقعةٌ صِلَةَ الاسْمِ المَوْصُولِ فلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "كَانُوا" فِعُلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ"، والأَلِفُ الفارِقَةُ. وَ "لَا" نافيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا، وَ "يَسْتَطِيعُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ وعَلامَةُ رفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَسْمَاءِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "سَمْعًا" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ خَبَرُ "كانَ" في محلِّ النَّصْبِ، وَجُمْلَةُ "كَانُ" مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كان" الأُولَى عَلى كَوْنِهَا صِلَةَ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.