كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {كَذَلِكَ} أَيْ: كَمَا ذَهَبَ "ذُو القَرْنَيْنِ" إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ بِمَا أَتْبَعَ مِنْ سببٍ، فَقَدْ أَتْبَعَ سَبَبًا أَوْصَلَهُ إِلى مَشْرِقِها. أَوْ كَذَلِكَ كَانَتْ حَالَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ الذينَ وجدَهم عندَ مَطْلِعِ الشمسِ كَمَا كَانَتْ حالتُهُ مَعَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ الذينَ كانَ قَدْ وَجَدَهمْ عندَ مَغْرِبِهَا، فَقَدْ قَضَى فِي هَؤُلَاءِ كَمَا قَضَى فِي أُولَئِكَ، مِنْ تَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ بِقَتْلِهِم، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيجوزُ أَنْ يكونَ المَعْنَى: كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَا قَدْ أَعْلَمَ رَسُولَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَيَجوزُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: "كَذَلِكَ"، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ كَمَا وَجَدَهُمْ عَلَيْهِ "ذُو الْقَرْنَيْنِ"، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا أَيْ كُنَّا عَالِمِينَ بِأَنَّ الأَمْرَ كَذَلِكَ.
قولُهُ: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} بِما لَدَيْهِ: أَيْ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ عَظَمَةِ الْمُلْكِ مِنْ جُنْدٍ وَقُوَّةٍ وَثَرْوَةٍ. وَ "خُبْرًا" عِلْمًا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَعْلُومِ عَظِيمًا بِحَيْثُ لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ إِلَّا عَلَّامُ الغُيُوبِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى. يَعْنِي: وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُنا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ جُنْدٍ، وَمَا مَعَهُ مِنْ آلَاتٍ، وَعُدَدٍ، وَمَنْ وَجَدَهُ مِنْ خَلْقِنَا في المَوْضِعَيْنِ، وأَوْصافِ كُلٍّ مِنْهُما وَحَالِهِ، قَوْمٌ الغَالِبُ عَلَيْهِمْ إِشْراقُ شَمْسِهمْ وَطُولُ نَهَارِهِمْ، وُهُمْ أَهْلُ المَشْرقِ، وَقومٌ الغالِبُ عَلَيْهِمُ اسْتِتارُ شَمْسِهِمْ، وطولُ لَيْلِهِمْ. كَذَلِكَ النَّاسُ في طُلوعِ شَمْسِ الهدايةِ والتَوْحِيدِ عليهِم، فَالحُضُورُ نَعْتُهم، والشُّهودُ وَصْفُهم، والتَّوْحيدُ حَقُّهم، وقومٌ آخرونَ على العكسِ فَنَصِيبُهُم مِنْ شَمْسِ التَّوْحيدِ أَقَلُّ وقِسْطُهم أَدْنى. ونَحْنُ أَعلمُ بِمَا حَكَمَ فِيهِما.
قولُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ} الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَشْبيهٍ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: الأَمْرُ كائِنٌ كَذَلِكَ، أَيْ: أَمْرُ "ذِي القَرْنَيْنِ" كائنٌ كَمَا وَصَفْنَاهُ، مِنْ بُلوغِهِ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَبُلوغِهِ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، وَبَسْطَةِ المُلْكِ لَهُ، وعَلَيْهِ فَمَحَلُّ الكافِ إِذًا هُوَ الرَّفْعُ عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ المَحْذوفٍ. أَوْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: حَكَمَ بِهَؤُلاءِ الذينَ يَعِيشُونَ فِي الجُزْءِ الذي هو أَوَّلُ مَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَيْهِ حينَ شُروقِها، كَمَا حَكَمَ بِأُولَئِكَ الذينَ يَعِيشُونَ فَي الجُزْءِ الذي هو أَوَّلُ مَا تَغيبُ عَنْهُ الشَّمْسُ حِينَ مَغْرِبِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ صِفَةً لـ "قَوْمًا" أَيْ: قَوْمًا كَأُولِئكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَجَدَهُمْ فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ، أَيْ فِي كَوْنِهِمْ كُفَّارًا، وَعَلَيْهِ فَمَحَلُّ الكَافِ النَّصْبُ. وَ "ذَا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ خبرًا للمُبْتَدَأِ المَحْذوفِ، واللامُ لِلْبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، أَوْ حاليَّةٌ، أَوْ للعطْفِ، وَ "قَدْ" حَرْفٌ للتَحْقيقِ. وَ "أَحَطْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٌ هوَ "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ، أَوْ هِيَ حَالِيَّةٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ على الجملةِ الفِعْلِيَّةِ المُقدَّرِ فعلُها كما تقدَّمَ آنِفًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المتعاطِفَتَيْنِ جُمْلَةِ قولِهِ: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ}. وَجُمْلَةِ قولِهِ: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}. وَ "بِمَا" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَحَطْنَا"، وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "لَدَيْهِ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُرِ ظُهورِهَا عَلى الأَلِفِ المُعَادَةِ إِلَى أَصْلِها اليائيِّ لِتُناسِبَ الكَسْرَ بَعْدَهَا، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ صِلَةٍ الاسْمِ المَوْصُولِ، والتقديرُ: وقدْ أَحَطْنا بِمَا هوَ مَوْجُودٌ لَدَيْهِ، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "خُبْرًا" تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنْ فَاعِلِ "أَحَطْنَا" أَيْ: وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِمَا لَدَيِهِ.