قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} القائلُ هُوَ الخَضِرُ، فَقَدْ أَذِنَ لِمُوسَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، أَنْ يَتَبِعَهُ مُشْترِطًا عَلَيْهِ أَلَّا يَسْأَلَهُ عنْ شيْءٍ يَرَاهُ مِنْهُ مَهْمَا اسْتَهْجَنَ ما يَرَاهُ أَوْ أَنْكَرَهُ. وَهَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُناقِشَهُ فِيهِ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ. فالفَاءُ هُنَا هي الشَّرْطِيَّةُ للتِّفْريعِ عَلَى مَا تقدَّمَ مِنْ وَعَدِ ـ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِالصَّبْرِ بأَنْ يُطيعَهُ فيما يأْمَرُهُ بِهِ، وأَنْ يَصْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سَيَجِدُهُ صَابِرًا، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَقَدِ أَكَّدَ النَّهْيَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ أَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ الْمُعَلِّمِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ قَدْ يُصَادِفُ وَقْتَ اشْتِغَالِ الْمَسْئُولِ بِإِكْمَالِ عَمَلِهِ فَتَضِيقُ لَهُ نَفْسُهُ.
قولُهُ: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} إِحْدَاثُ الذِّكْرِ: إِنْشَاؤُهُ وَإِبْرَازُهُ، كَما قَالِ ذِو الرُّمَّةِ:
وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ...... سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا
فالذِّكْرُ، هُنَا: ذِكْرُ اللِّسَانِ. أَعْنِي بَيَانَ الْعِلَلِ وَالتَّوْجِيهَاتِ وَكَشْفَ الْغَوَامِضِ. فقَدْ وَعْدٌ مِنَ الخَضِرِ إِلى مُوسَى عَلَيْهِما السَلامُ، أَنْ يُعَلِلَ لَهُ ـ فِيما بَعْدُ، كُلَّ مَا يَراهُ مِنْهُ مِنْ أَفْعالٍ يُنْكِرُها، وأَنْ يُبَيِّنَ لَهُ ويَشْرَحَ الأَسْبابَ الَّتي حَمَلَتْهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَها، وكَأَنَّما قَالَ لَهُ: أَنْكِرْ بِقَلْبِكَ حَتَّى أُبَيِّنَهُ لَكَ، أَوْ المقصودُ تَرْكُ السُّؤَالِ مُطْلَقًا، فإِنَّهُ لَا سُّؤَالَ بَعْدُ البَيَانِ، وَعَلى الوَجْهَيْنِ فإنَّ فيهِ إِيذانٌ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ فلِحِكْمَةٍ مقصودةٍ وَغَايَةِ حَمِيدَةٍ.
وَهَذَا تَأْدِيبٌ مِنْ الْخَضِرِ ـ علَيْهِ السَّلامُ، وَإِرْشَادٌ لِمَا يَقْتَضِي دَوَامَ الصُّحْبَةِ، فَلَوْ صَبَرَ موسَى ـ سلامُ اللهِ عَلَيْهِ، وَدَأَبَ، لَرَأَى الْعَجَبَ، كما قالَ نَبِيُّنا ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وسَلامُهُ، في الحَديثِ الصّحيحِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ في الآيَةِ التي قَبْلَ هَذهِ مِنْ حديثِ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، لَكِنَّهُ أَكْثَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ فَتَعَيَّنَ الْفِرَاقُ وَالْإِعْرَاضُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلَى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَةُ هذِهِ مُسْتَأْنفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ، وَ "فَإِنْ" الفاءُ: لِتَفْريعِ هذِهِ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ مِنِ الْتِزامِهِ للصَّبْرِ، والطاعَةِ. و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٍ. و "اتَّبَعْتَنِي" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِكٌ هوَ تاءُ الفاعِلِ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بـ "إِنْ" الشرطيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. وَتَاءُ الفاعِلِ هذِهِ هِيَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِ الرفعِ بالفاعِلِيَةِ، والنُونُ للوقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِمِ ضميرٌ مُتِصلٌ بِهِ في محلِ النَّصْبِ بالمَفْعولِيَّةِ.
قولُهُ: {فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ، و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. وَ "تَسْئَلْنِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ على موسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والنَونُ للوِقايَةِ، والياءُ: ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ. وَ "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِـ "تَسْئَلْنِي"، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْديرِ صِفَةٍ مَحْذوفَةٍ هُنَا؛ تَقْديْرُها: عَنْ شَيْءٍ خَفَيٍّ عَلَيْكَ سِرُّهُ، وغَيْبِيُّ أَمْرِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِها جَوَابًا لَهَا، وجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ".
قَوْلُهُ: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. و "أُحْدِثَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً بَعْدَ "حَتَّى"، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ و "لَكَ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُحْدِثَ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مِنْهُ" مِنْ: حرفُ جرٍّ متعلِقٌ بِحَالٍ مِنْ "ذِكْرًا". و "ذِكْرًا" منصوبٌ على المفعوليَّةِ، وجُمْلَةُ "أُحْدِثَ" مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "حَتَّى" والتقديرُ: إِلَى إِحْداثي لَكَ مِنْهُ "ذِكْرًا" وهذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَسْئَلْنِي".
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبو عَمْرٍو، وَعاصِمٌ، وَالأَخوانِ (حمزَةُ، والكِسائيُّ): {فَلَا تَسْأَلْني} سَاكِنَةَ اللَّامِ. وَقَرَأَ نَافِع: "فَلَا تَسْأَلَنِّي" بِفَتْحِ اللَّامِ وتَشْديدِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عامِرٍ فِي رِوَايَةِ الدَّاجُونِيِّ: "فَلا تَسْأَلَنِّ عِنْ شَيْءٍ" بِتَحْريكِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ، ونُونٍ مَكْسُورَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر "تَسَلَنِّي" بِفَتْحِ السِينِ واللَّامِ وَتَشْديدِ النُّونِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ.