فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} أَيْ: فلمَّا تَجاوزَ نَبِيَّ اللهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفَتَاهُ، فِي سَيْرِهِمَا مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، الذي هوَ مَكان مَوْعِدِ اللِّقاءِ بَيْنَ مُوسَى والخَضِرِ ـ على نَبِيِّنا وَعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فمَفْعُولُ "جَاوَزَا" مَحْذُوفٌ، أَيْ: جَاوَزَا مكانَ المَوْعِدِ المُحَدَّدَ. وَقِيلَ: جَاوَزَا مَجْمَعَ البحرَيْن. حينَها قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: أَحْضِرْ لَنَا طَعَامَ الغَداءِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى مُوسَى الْجُوعُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصَّخْرَةِ لِيَتَذَكَّرَ الْحُوتَ وَيَرْجِعَ إِلَى مَطْلَبِهِ. وَالْغَدَاءُ مَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ غُدْوَةً وَالْعَشَاءُ مَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ عَشِيَّةً.
قوْلُهُ: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} الإِشارةٌ بِـ "هذا" إِلَى السَّفَرِ الذي وَقَعَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِمَا المَوْعِدَ، أَوْ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ. و "نَصَبًا" تَعَبًا وَشِدَّةً، وهوَ ما كانَ عنْ التَعَبِ والوَهْنِ الذي يَكونُ عَنِ الكَلالَ. قالَ الليْثُ بْنُ سَعْدٍ: (النَّصَبُ: الإِعْياءُ مِنَ العَنَاءِ، والفِعْلُ: نَصِبَ يَنْصَبُ، وأَنْصَبَنِي هَذَا الأَمْرُ) تَهْذيبُ اللُّغَةِ لأَبي منصورٍ الأَزْهَرِيِّ الهرريِّ: (4/3581).
قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الحديثِ المُتَقَدِّمِ تَخْريجُهُ أَوَّلَ القِصَّةِ: ((انْطَلَقَا وَأَصَابَهُمَا مَا يُصِيبُ المُسَافِرَ مِنَ النَّصَبِ وَالكَلالِ)). وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (إِنَّهُ لَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ المَوْضِعَ الذي يُريدُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ حَدِّ المَوْضِعِ نَصِبَ فَدَعَا بِالطَعامِ لِيَأْكُلَ). جامِعُ البَيَانِ للطبريِّ: (15/278)، والجامِع لأَحْكامِ القُرْآنِ للقُرْطُبيِّ: (11/13). وَبِهِ قَالَ جَميعُ المُفَسِّرينَ. وهَذا يَعْني أَنَّ سيِّدَنا مَوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، سَارَ ومعَهُ فَتَاهُ حَتَّى مَجْمَع البَحْرَيْنِ، وَاسْتَراحَا هناكَ، ثُمَّ جَاوَزا هَذَا المَكانَ، وسَارَا بَقِيَّةَ يومِهِما ولَيْلَتِهِمَا، وَقِيلَ أَدْلَجَا وَسَارا اللَّيْلَةَ وَالغَدَ إِلى الظُّهْرِ، فَبَدَا عَلَيْهِمَا الإِرْهاقُ وَالتَّعَبُ؛ مِنْ سَيْرِهمْا هَذِهِ المَسَافَةَ البَسِيطَةً مُقَارَنَةً بِمَا سَاراهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتَعَبَا، بالرغمِ مِنْ طولِ مَسَافتِهِ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِسَيِّدِنَا مُوسَى حَتَّى لَا يَبْتَعِدَ كثيرًا عَنِ مَكانِ اللِّقاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاوَزَا} الفاءُ: عاطفةٌ، و "لَمَّا" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ بِمَعْنَى (حِينَ)، مُتَعَلِّقٌ بِـ "جاوَزَا"، وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وهوَ مُضافٌ. وَ "جَاوَزا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ، وَأَلِفُ التَثْنِيَةِ هُوَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَجُمْلَةُ "جاوَزا" فِي مَحَلِّ الجرِّ بإِضافةِ الظَّرفِ إِلَيْها. وَجُمْلَةُ "لَمَّا" مَعْطوفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، والتَقْديرُ: فَذَهَبَا يَمْشِيَانِ، فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ .. . إِلَخ.
قولُهُ: {قَالَ لِفَتَاهُ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ. وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "لِفَتاهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـِ "قالَ"، و "فَتاهُ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ "قالَ" جَوَابُ "لَمَّا" لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {آتِنا غَداءَنا} آتِنا: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تَقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "فَتَاهُ"، وَ "نا" ضَميرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "آتِنا"، وَ "غَدَاءَنا" مفْعولٌ بِهِ ثانٍ لَهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وَ "نَا" ضميرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها مَقولَ القولِ لِـ "قالَ".
قوْلُهُ: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} اللَّامُ: هيَ المُوَطِّئَةُ للْقَسَمِ، وَ "قَدْ" للتَّحْقيقِ. و "لَقِينا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو "نا" لجَماعَةِ المُتَكَلِّمينَ، وهو ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "لَقِينا". و "سَفَرِنا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، "نا" جَماعَةِ المُتَكَلِّمينَ، ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "هذا" الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذا" اسمُ إشارةِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ على أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ "سَفَرِ} أَوْ صِفَةٌ لَهُ. و "نَصَبًا" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "لَقِينا" منصوبٌ بِهِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوَابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قالَ".
قَرَأَ العامَّةُ: {نَصَبًا} بِفَتْحِ النُّونِ والصَّادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ "نُصُبًا" بِضَمِّهِمَا. وَهُمَا لُغَتَانِ مِنْ أَرْبَعِ لُغَاتٍ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ.