نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} يَقُولُ الحَقُّ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، مُخاطِبًا رَسولَهُ الكريمْ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: نَحْنُ نُخْبِرُكَ بِقِصَّتِهم مُفَصَّلَةً، وَ "بِالْحَقِّ" إِشْارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كانَ فِي عَهْدِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ يَقُصُّ نَبَأَهُمْ لَكِنْ بِغَيْرِ الحَقِّ، فإِنَّهُ كانَ فِي نَبَئهمْ تَخَرُّصَاتٌ وَرَجْمٌ بِالْغَيْبِ مِمَّا أَثَارَ فِي النُّفُوسِ التَّطَلُّعَ إِلَى مَعْرِفَةِ الحقيقةِ في شأْنِهمْ، والصِّدْقِ فِي أَمْرِهِمْ. وَقد أَفادَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي جُمْلَةِ "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ" الِاخْتِصَاصَ، أَيْ نَحْنُ لَا غَيْرُنَا يَقُصُّ قِصَصَهُمْ عَليكَ بِالْحَقِّ الْذي هُوَ هُنَا الصِّدْقُ. وَالصِّدْقُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَقِّ. وَفِي الآيَةِ دَليلٌ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الكَهْفِ كَانَتْ مِنْ عِلْمِ العَرَبِ، وإِنَّما لَمْ يَكونُوا عَالِمِينَ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا الصَّحيحِ، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ اخْتِلافُهُم في عَدَدِهْمْ ومُدَّةِ لَبْثِهِمْ في كَهْفِهِمْ كما جاءَ في الآيةِ: 22، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشاعِرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبي الصَّلْتِ:
وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا الرَّقيمُ مُجَاوِرًا ....... وَصِيدَهُمُو والقَومُ في الكَهْفِ هُجَّدًا
فقدَ ذكَرَ بَعْضَ مُفْرَدَاتِ هَذِهِ القِصَّةِ، التي كَانَتْ معلوماتُهمْ عَنْهَا مُتَفَرِّقَةً مُضطَّرِبَةً مُشَوَّشَةً. وَمِمَّا ذَكَرَ محمَّدُ بْنُ إِسْحاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ نَبَأَهم: أَنَّ أَهْلَ الإِنْجيلِ قَدَ مَرَجَ أَمْرُهمْ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الخَطَايَا، وَطَغَتْ مُلُوكُهُمْ فَعَبَدُوا الأَصْنَامَ، وَذَبَحُوا للطَّوَاغِيتِ، وَفِيهِمْ بَقَايَا عَلى دِينِ المَسِيحِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مُتَمَسِّكينَ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَكَانَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَعَتَا عُتُوًّا كَبيرًا مَلِكٌ اسمُهُ (دِقْيَانُوس) أَوْ (دِقْيُوس) فَإِنَّهُ عَلا في الأَرْضِ عُلُوًّا كبيرًا، وَأَظْهَرَ فِيهَا فَسَادًا عظيمً، وَقَتَلَ كُلَّ مُخالِفِيهِ مِمَّنَ هُمْ على دِينِ السيِّدِ المَسيحِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكلَّ مَنْ لمْ يَعْبُدَ معهُ الأَوْثانَ، وكانَ يَقْتُلُ أَهْلَ الإِيمانِ وَيُقَطِّعُ أَجْسَادَهم وَيَجْعَلَهَا عَلَى سُورِ المَدينَةِ وَأَبْوابِهَا لِيُشِيعَ الرُّعْبِ في نفوسِ المُؤْمِنِينَ، فَخَشِيَهُ الناسُ وَانْقادَ لِأَمْرِهِ كُلُّ مَنْ كانَ يَرْغَبُ فِي الحياةِ الدُنْيَا، ويُؤْثِرُها عَلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. فلَمَّا رَأَى هؤلاءِ الفِتْيَةُ ذَلِكَ، وكانُوا مِنْ أَبناءِ عُظَمَاءِ أَهْلِ مَدينَتِهِمْ واسْمُها (افْسُوس) أَوْ (طَرْسُوس)، وَقِيلَ كانُوا مِنْ خاصَّةِ المَلِكِ، وكانُوا يَجْتَمِعُونَ على عبادةِ اللهِ، ويَشْتَغِلُونَ بِالصَّلاةِ والدُّعاءِ والتَضَرُّعِ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمٌ الشُّرَطُ فَأَخَذُوهم، وأَعْيُنُهمْ تَفيضُ بِالدَّمْعِ، وُوُجُوهُهُمْ مُعَفَّرَةٌ بِالتُّرابِ، وَأَحْضَرُوهم بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِهِمُ الطاغيَةِ الجَبَّارِ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَا مَنَعَكَمْ أَنْ تَشْهَدُوا الذَّبْحَ لآلِهَتِنَا. وَخَيَّرَهُمُ المَلِكُ بَيْنَ القَتْلِ وَعِبَادَةِ الأَوْثانِ، فاخْتَارُوا: عِبادَةَ الإِلَهِ الواحِدِ القَهَّارِ الذي مَلَأَتْ عَظَمَتُهُ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، وسَطَا جَبَروتُهُ عَلَى الوُجُودِ كِلِّهِ، وقالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ أَحَدًا، وَلَنْ نُقِرَّ بِمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ أَبَدًا، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ. فَأَمَرَ المَلِكُ فَنُزِعَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الثِّيابِ الفَاخِرَةِ، وأَخْرَجَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَمْهَلَهُمْ إِلى حينَ عَوْدَتِهِم حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ قَرَارِهِمْ، وخَرَجَ إِلَى مَدينَةٍ "نِينَوَى" في بَعْضِ شَأْنِهِ. فَتشاوَرُوا فيما بَيْنَهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّدَ كُلٌّ مِنْهُمْ بنَفَقَةٍ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُوا إِلَى كَهْفٍ قَريبٍ مِنَ المَدينَةِ، يُقَالُ لَهُ (بَنْجَلوس) فَآوُوا إِلَى الكَهْفِ فَلَبِثُوا فِيهِ يَعْبُدونَ رَبَّهُم. مُفَوِّضِينَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَفَوَّضُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ اسْمُهُ (يَمْلِيخَا) بِأَمْرِ طَعَامِهِم وشرابِهِم. فَكَانَ إِذا أَصْبَحَ تَنَكَّرَ وَدَخَلَ المَدينَةَ واشْتَرى حاجَتَهُمْ منها وتَحَسَّسَ أَخْبَارَ المدينةِ لِيَعُودَ بِهَا إِلَيْهِمْ فَلَبْثُوا عَلَى هذا الحالِ إِلى أَنْ عَادَ الملكُ إِلَى المَدينَةِ وطَلَبَهُمْ فَلَمْ يجدَهمْ، فَأُحْضِرَ آباؤهم، فاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ أَبناءَهم عَصَوْا أَمْرَهم، ونَهَبُوا أَمْوالَهم، وَفَرُّوا إِلَى الجَبَلِ، وَكَانَ يَمْلِيخَا إِذْ ذَاكَ فِي المَدينَةِ مُتَنَكِّرًا كعادَتِهِ، فَرَجَعَ بالخبَرِ إِلى أَصْحابِهِ، فَفَزِعُوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمْ، وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، يتضَرَّعونَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَى آذانِهم، فَنَامُوا ونَفَقَتُهُمْ عِنْدَ رُؤوسِهم، وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصيدِ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهم، فَنَامَ مَعَهُمْ. وخَرَجَ الملكُ في طَلَبِهِمْ فَوَجَدَهم قَدْ دَخَلُوا الكَهْفَ، فَأَمَرَ بِإِخْراجِهِمْ، ولَمَّا كانُوا مَأْخُوذينَ عَنْهُمْ تَوَلَّى اللهُ أَمرَهم، فَلَمْ يَسْتَطِعٌ أَحَدٌ دُخولَ الكَهْفِ عَلَيْهم، ثُمَّ كانَ مِنْ شَأْنِهم مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ.
هذا وَإِنَّ ابْنُ كَثِيرٍ يَرَى أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الكَهْفِ كَانَتْ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرَانِيَّةِ لاَ بَعْدَهَا، لأَنَّ أَحْبَارَ اليَهُودِ كَانُوا يَعْرِفُونَها، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ لِسُؤَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْجِيزِ والامتحانِ، كَمَا سَبقَ بَيَانُهُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ يَزيدُ وَيَنْقُصُ، يَزِيدُ بالطاعةِ، وينقُصُ بالمَعْصِيَةِ، فإِنَّ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ وَأَطَاعَهُ زَادَهُ رَبُّهُ هُدًى، فالطَّاعَةَ سَبَبٌ لِلْزِيادةِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَقد جَاءَ هَذَا الْمَفْهُومُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ الذِّكرِ الحَكيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْفَالِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} الْآيَةَ: 29، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} الآية: 124، وقولِهِ مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} الآية: 69. وَقَوْلِهِ منْ سُورَةِ سيِّدِنا محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} الآية: 17، وَقَوْلِهِ منْ سُورةِ الفتحِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} الْآيَةَ: 4، وقولِهِ مِنْ سُورةِ الحَديدِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} الْآيَةَ: 28، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} إِنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ: يُقَالُ لِأَنَّهم لَمَّا أَتَتْهُم دَوَاعِي الوَصْلَةِ مِنْ ربِّهمْ، آمَنُوا بِهِ عَلَى الوَهْلَةِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ. ويُقالُ: قِيلَ فيهم "إنَّهم فِتْيَةٌ" لِأَنَّهُمْ قامُوا للهِ ـ تَعَالى، بالعُبوديَّةِ مُلَبِّينَ طائعينَ. وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قالَ: مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا وَهُوَ شَابٌ، وَلَا أُوتِيَ الْعِلْمَ عَالِمٌ إِلَّا وَهُوَ شَابٌّ، وَقَرَأَ: {قَالُوا سِمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم}، و {إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} وَ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبَّهمْ}. فَقَدْ قِيلَ: "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ" أَيْ شَبَابٌ وَأَحْدَاثٌ حَكَمَ لَهُمْ بِالْفُتُوَّةِ حِينَ آمَنُوا بِلَا وَاسِطَةٍ، كَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللِّسَانِ: رَأْسُ الْفُتُوَّةِ الْإِيمَانُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْفُتُوَّةُ بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ الْأَذَى وَتَرْكُ الشَّكْوَى. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاسْتِعْجَالُ الْمَكَارِمِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ يَعُمُّ بِالْمَعْنَى جَمِيعَ مَا قِيلَ فِي الْفُتُوَّةِ. وَ "وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" زَادَهمُ اللهُ مِنْهُ هُدًى عَلَى هُدَاهُمْ، بِتَثْبِيتِهِمْ عَلَى الإِيمَانِ، وَتَوْفِيقِهِمْ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَمَا اسْتَقَرُّوا حَتَّى وَصَلُوا وَصَارُوا عِنْدَهُ مِنَ المُقَّرَّبينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "وَزِدْنَاهُم هُدَى"، أَنَّهُ قَالَ: زِدْنَاهُمْ إِخْلاصًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: زَادَهُمْ هُدًى بِكَلْبِ الرَّاعِي حِينَ طَرَدُوهُ وَرَجَمُوهُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْبَحَ عَلَيْهِمْ ويُنَبِّهَ بِهِمْ، فَرَفَعَ الكَلْبُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ كَالدَّاعِي، فَأَنْطَقَهُ اللهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ! لِمَ تَطْرُدُونَنِي، لِمَ تَرْجُمُونَنِي! لِمَ تَضْرِبُونَنِي! فَوَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ اللهَ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفُوهُ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَزَادَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ هُدًى.
وَالزِّيَادَةُ: هِي الوَفْرَةُ في مِقْدَارِ الشَيْءِ، كَوَفْرَةِ عَدَدِ الْمَعْدُودِ، وَوَزْنِ الْمَوْزُونِ، وَوَفْرَةِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ، وهَكَذَا. وَهذا الفِعْلُ (زَادَ) قدْ يَكُونُ قَاصِرًا في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الصافَّاتِ: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} الآيةَ: 14، وَيَأْتي مُتَعَدِّيًا كَما في قَوْلِهِ مِنْ سورةِ البقرةِ: {فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} الْآيةَ: 10. وَتُسْتَعَارُ الزِّيَادَةُ لِقُوَّةِ الْوَصْفِ كَمَا ههُنَا. هذا وَفي قَوْلِهِ تَعَالَى: "آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ" الْتِفَاتٌ مِنَ التَكَلُّم إِلَى الغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى نَسَقِ الكَلامِ لَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِنَا.
قولُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} نَحْنُ: ضَمِيرٌ للمُعَظِمِ نَفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ "نَقُصُّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِم،ِ وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرً للمُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وخبَرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "عَلَيْكَ" عَلَى: مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَقُصُّ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "نَبَأَهُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. و "بِالْحَقِّ" الباءُ: حرفُ جرٍّ للمُلابَسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فَاعِلِ "نَقُصُّ" أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، و "الحَقِّ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} إِنَّهُمْ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَصْبِ اسْمُهُ، والميمُ: للجمعِ المُذكَّرِ. و "فِتْيَةٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِسَرْدِ قِصَّةِ أصحابِ الكَهْفِ. و "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والألفُ للتَّفْريقِ. و "بِرَبِّهِمْ" الباءُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بـ "آمنوا"، و "رَبِّ" اسمٌ مجورٌ بحرفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِفَةٌ لِـ "فِتْيَةٌ" في محلِّ رفعٍ.
قولُهُ: {وَزِدْناهُمْ هُدًى} الواوُ: للعطْفِ، و "زِدْناهم" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ، و "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ، وَالمِيمُ للجَمْعِ المُذكَّر. وَ "هُدًى" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ منصوبٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "آمَنُوا" على كونِها صفةً لخَبَرِ "إنَّ" وهوَ "فِتْيةٌ".