إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} تَعْقيبٌ عَلَى الآيَةِ التي قَبْلَهَا، فيهِ إِشَارَةٌ للنبيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، بِأَنَّ الحياةَ الدُّنْيا قَصِيرَةٌ، قريبٌ زَوَالُها فَلا داعيَ لِأَنْ يُهلِكَ نَفْسَهُ حُزْنًا عَلَى عِنَادِ قَوْمِهِ وتكذيبِهمْ وإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفرِهم، فإِنَّ دُنْيَا كُلِّ إِنْسانٍ هيَ المُدَّةُ التي يَعيشُها فِيها، وعليْهِ فإِنَّ أَجلَ الدُنْيَا قريبٌ، فَلا تَحْزَنْ عليهم يا رَسولَ اللهِ ولا تَيْأَسْ مِنْهُمْ، وَلَا تَكَدِّرْ نَفْسَكَ بسببِ عدمِ إِيمانِهم. فإنَّ كُلَّ مَا عَلى الأَرْضِ زِينَةٌ لها، وَالزينَةُ تَبْرُقُ أَمَامَ العيونَ، ثُمَّ لا تَلْبَثُ أَنْ تَتَلاشَى وتَفْنَى، وسيَأْتي بَيَانُ هَذا المَعْنَى مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {واضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحياةِ الدُّنْيا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ} الآيةَ: 45، إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في تَأْويلِ هذِهِ الزِّينَةِ فقالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: مَا عَلَيْهَا مِنْ شَيْءٍ. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا" قَالَ: الرِّجَال. وَأَخْرَجَ ابْن الْمُنْذرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ فِي (الْإِبَانَةِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا" قَالَ: الْعُلَمَاءُ زِينَةُ الأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْض زِينَةً لَهَا" قَالَ: هُمُ الرِّجَالُ الْعُبَّادُ الْعُمَّالُ للهِ بِالطَّاعَةِ.
قوْلُهُ: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} لِنَبْلُوَهُمْ: لِنَخْتَبِرَهُمْ ونَمْتَحِنَهُم، والبَلاءُ: الاخْتِبارُ والامْتِحَانُ. ولَيْسَ المُصِيبَةَ كَمَا قَدْ يُظَنُّ؛ وإِنَّما تَكونُ المُصِيبَةُ لِمَنْ يُخْفِقُ فِي الاخْتِبَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذِهِ الْآيَةَ "لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" فَقُلْتُ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: ((ليَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا، وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَأَسْرَعُكُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "لِنَبْلُوُهُمْ" قَالَ: لِنَخْتِبِرَهُمْ. و "أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" قَالَ: أَيهمْ أَتَمُّ عَقْلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: ""لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" قَالَ: أَشَّدُّهُمْ لِلدُّنْيَا تَرْكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" قَالَ: أَزْهَدُهُم فِي الدُّنْيَا. وهِيَ كُلُّها مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ كَمَا تَرَى.
وليسَ الابْتِلاءُ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ سِوَى إِظْهارِ مَا هُوَ مَكْنُونٌ في سَابِقِ عِلْمِهِ تَعَالَى مِمَّا سَيَحْدُثُ مِنْهُمْ، عَلِمَ ذلكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ لأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى صِفَةٌ قَديمَةٌ أَزْلِيَّةٌ قائمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، عَلِمَ ما سَيُحْدِثُ كُلُّ مَخْلوقٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ.
وقدْ جَاءَتِ الآيَةُ فِي مَعْرِضِ تَسْلِيَةِ قلْبِهِ الشَّريفِ ـ صَلَواتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، عَنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ، بِأَنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ زِينَةَ الحياةَ الدُّنْيَا وأَمْهَلَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَهُ، لكِنَّهُمْ بَطرُوا النِّعْمَةَ، ولذلكَ فَسَيَسْلِبُها فَتَغْدُوا بِلَادُهُمْ قَاحِلَةً. وَفي هَذَا تَعْرِيض بِأَنَّهُ سَيَحُلُّ بِهِمْ قَحْطُ السِّنِينَ السَّبْعِ الَّتِي سَأَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَلَيْهِم كَسِنِيِّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} إِنَّا: هي "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ َمبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "جَعَلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، وجُمْلَةُ "جَعَلْنا" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ المَقْصودِ مِنَ التَرَجِّي، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ مبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "جَعَلَ"، و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَا" أَوْ بِصِلَةٍ لَهَا، و "الْأَرْضِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "زِينَةً" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "جَعَلَ" مَنْصُوبٌ بِهِ، وَإِنْ كانَ الجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الخَلْقِ، فَتَكونُ "زِينَةً" مَنْصُوبَةً عَلَى الحالِ مِنْ "مَا" المَوْصُولَةِ، ويَجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى المَفْعُولِ لَهُ. وَ "لَها" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "زِينَةً"، ويَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ زَائدَةً فِي المَفْعُولِ، وَ "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} لِنَبْلُوَهُمْ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْلِيلٍ، و "نَبْلُوَهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً بِعْدَ لامِ "كي"، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى الفاعِلِيَّةِ، والميمُ لِتَذْكيرِ الجَمْعِ. و "أَيُّهُمْ" أَيُّ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ وَالهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذكيرِ الجَمْعِ. و "أَحْسَنُ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. ويَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ "أَيُّ" اسْمًا مَوْصُولًا مَبْنِيًّا عَلَى الضَّمِّ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلًا مِنَ الضَمِيرِ فِي "نَبْلُوَهُمْ"، وَ "أَحْسَنُ" خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ (هو) والجُمْلَةُ صلة الموصول لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "عَمَلًا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ مَنْصُوبٌ بِاسْمِ التَفْضِيلِ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وهيَ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "نَبْلُو"، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى "نَعْلَمُ"، وَقَدْ عُلِّقَ عَنِ العَمَلِ بِـ "أَيُّ" الاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَجُمْلَةُ "نَبْلُوَهُمْ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِـ "لَامِ" التَعْليلِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلْنا" والتَقْديرُ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِبَلاءِ مَنْ عَلَيْهَا أَيُّهمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.