وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} أُعِيدَتِ جُمْلَةُ "يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ" تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْحَالِ. فالتَكْرِيرُ هُنَا لاخْتِلَافِ الْحَالِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا، والإعَادَةُ لِأَنَّ الخرورَ الأَوَّلَ للسُّجودِ، والثاني لإظهارِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ وَالخُشُوعِ عِنْدَ اسْتِمَاعِ القُرْآنِ، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا". وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ التَّكريرُ هنا دَلالةً عَلَى تَكَرُّرِ ذاكَ الفِعْلِ مِنْهُم.
وَقَدْ يَقَعُ التَّكْرِيرُ مَعَ الْعَطْفِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْقُيُودِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْمُغَايَرَةُ مُصَحِّحَةً الْعَطْفَ، كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:
فَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ...... إِذَا الْخَصْمُ أَبْزَى مَائِلُ الرَّأْسِ أَنْكَبُ
وَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ....... وَفِي الأَرْض مَبْثُوثٌ شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ
فَالْخُرُورُ هُنَا هُوَ الْخُرُورُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا خَرُّوا خُرُورًا وَاحِدًا سَاجِدِينَ بَاكِينَ، فَذُكِرَ مَرَّتَيْنِ اهْتِمَامًا بِمَا صَحِبَهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْخُشُوعِ. وَجاءَ "يَبْكُونَ" مُضَارِعًا لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
وَإنَّما يَحْصُلُ الْبُكَاءُ: مِنِ انْفِعالٍ بَاطِنِيٍّ ناشئٍ عَنْ حُزْنٍ، أَوْ عَنْ خَوْفٍ أَوْ عَنْ شَوْقٍ، فيكونُ بُكَاءَ سرورٍ وَبَهْجَةٍ وفَرَحٍ.
وَمِنَ السُّنَّةِ أنْ يَسْجُدَ الْقَارِئُ وَالْمُسْتَمِعِ هُنَا اقْتِدَاءً بِأُولَئِكَ السَّاجِدِينَ، لأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ.
قولُهُ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} فإنَّ سَمَاعَ القرآنِ يزيدُ المُؤمِنَ خوفًا مِنَ اللهِ تَعَالى، وأَمَلًا بعفوِهِ ومَغْفِرَتِهِ ورحمتِهِ، وشوقًا إلى لِقَائِهِ والنَّظَرِ إلى نورِ وَجْهِهِ الكريم.
والخَاشَعُ: هُوَ المُطْمَئِنُّ اللَّاصِقُ بِالأَرْضِ، وَأَصْلُ الخُشُوعِ في اللغَةِ: السُّكونُ، قالَ اللهُ تَعَالَى في الآيةِ: 108، مِنْ سورةِ طَهَ: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فلا تسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}، فـ "خَشَعَتْ" أَيْ: سَكَنَتْ، وَجدارٌ خَاشِعٌ: مُتَداعٍ مُسْتَوٍ مَعَ الأَرْضِ. ومِنْهُ ما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ: ((كانَتِ الكَعْبَةُ خُشْعَةً عَلى الماءِ))، أَخْرَجَهُ الأَزْرَقِيُّ في "أَخْبَارِ مَكَّةَ" بِسَنَدِهِ مِنْ حديثِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي رِوَايَةٍ طَويلَةٍ عَنْ خَلْقِ الأَرْضِ. فَـ "خُشْعَةً" أَيْ: سَاكَنَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيانيِّ مِنْ قصيدةٍ يَمْدَحُ فيها المَلِكَ النُّعْمَانَ بْنَ المُنذِرِ:
رَماَدٌ كَكُحِلِ العَيْنِ لَأْياً أُبِينُه ......... وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
ديوانُ النَّابِغَةِ الذُّبْيانِيِّ: (ص: 53).
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "يَخِرُّونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالفاعِلِيِّةِ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {يَخِرُّونَ}، الأُولى. و "لِلْأَذْقانِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَخِرُّونَ"، و "الْأَذْقانِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "يَبْكُونَ" إعرابُها مثلُ إعرابِ "يَخِرُّونَ". وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ فَاعِلِ "يَخِرُّونَ".
قولُهُ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الواوُ: للعطْفِ، و "يَزِيدُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى القُرْآنِ الكَريمِ، أَوْ عَلى البُكاءِ، أَوْ السُّجودِ، وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ عَطْفًا عَلَى جملةِ "يَبْكُونَ" أَوْ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "يَبْكُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "خشوعًا" نَصْبٌ عَلَى أنَّهُ مفعولٌ بِهِ ثانٍ.