وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا
(108)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} عَطْفٌ عَلَى قولِهِ: {يَخِرُّونَ} مِنَ الآيَةِ التي قبلَها، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْخُضُوعِ، وَالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ: { {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} الآيةَ: 15. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هُنَا: "سُبْحانَ رَبِّنَا" يَدُلُّ عَلَى الْبَهْجَةِ والفَرْحَةِ والتَّعَجُّبِ مِنْ تَحَقُّقِ وَعْدِ اللهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، بِبِعْثَةِ النَّبِيِّ الأَعْظَمِ وَالرَّسُولِ الْخَاتَمِ، سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهذا الضَّمِيرُ فِي "يَقُولُونَ" عائدٌ عَلَى عُلَماءِ أَهْلِ الكِتَابِ كَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، ابْنِ عمِّ زَوْجِهِ خَديجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَدْ تَسَامَعَ أَهْلُ مَكَّةَ بِشَهَادَتِهِ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يومَ اصْطَحَبَتِ النَّبِيَّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إِلَيْهِ فقصَّ عَلَيْهِ مَا كانَ مِنْ أَمْرِ جِبْريلَ في غارِ حراءٍ، وأَسْمَعَهُ أُولَى آياتِ الذِّكْرِ الحكيمِ التي نَزَلَ بها عَلَيْهِ، فقالَ ورقةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ))؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا)، أَخْرجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (6/153)، و (6/223)، و (6/232)، والبُخَارِي: (1/3، و 6/214، و 215، و 9/37، و 4/184 و 6/216، و 6/214 و 6/216)، ومُسْلِمٌ: (1/97 و 98)، والتِّرمِذي: (3632)، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ ـ رَحِمَهُ اللهُ، أَنْ تُوُفِّيَ.
ويَعُمُّ هَذَا الضَّمِيرُ أَيْضًا كلَّ مَنْ آمَنَ مِنْ عُلَماءِ أَهْلِ الكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمُعَيْقِيبٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وغيرِهِمْ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الكريمةِ إِخْبَارٌ بِمُغَيَّبٍ ـ أَيْضًا.
قوْلُهُ: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} إِنْ: هَذِهِ هِيَ المُخَفَّفَةُ مِنَ "إنَّ" الثَّقِيلَةِ، وَقَدْ بَطَلَ عَمَلُهَا بِسَبَبِ هَذا التَّخْفِيفِ، وجِيءَ بِها وَباللَّامِ المُزَحْلَقَةُ بَعْدَها لِتَأْكيدِ فعلِ الوعْدِ، وأَنَّهُ واقعٌ لا مَحالةَ. وَتَلاهَا فِعْلُ "كَانَ" النَّاقِصِ، وُهُوَ مِنْ نَوَاسِخِ الْمُبْتَدَأِ، وَذَلِكَ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ "إِنْ" الْمُخَفَّفَةِ. وَقَدْ قُرِنَ خَبَرُ الفِعْلِ النَّاسِخِ بِاللَّامِ الْفَارِقَةِ للتفريقِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ.
وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَقُولِهِمْ السَّابِقِ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ تَسْبِيحَهُمْ قَبْلَهُ تَسْبِيحُ تَعَجُّبٍ وَاعْتِبَارٍ بِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ وَبِالرَّسُولِ الذي نَزَلَ عليْهِ فِي الْكُتُبِ السَّماويَّةِ السَّابِقَةِ. وَالْوَعْدُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيقَ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَحَصَلَ التَّصْدِيقُ بِالْوَعْدِ وَالْمَوْعُودِ بِهِ. وَمعْنَى قولِهِ "لَمَفْعُولًا" أَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا جَاءَ فِي وَعْدِهِ، أَيْ يُكَوِّنُهُ وَيُحَقِّقُهُ، وفي هذِهِ الجُمْلَةِ دَليلٌ عَلى أَنَّ هَؤُلاءِ القائلينَ كانُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؛ لأَنَّ الوَعْدَ بِبِعْثَةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَبَقَ فِي كِتَابِهِمْ، فَكانوا يَنْتَظِرونَ إنجازَ ذَلِكَ الوَعْدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "يَقُولُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالفاعليِّةِ. والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جملةِ {يَخِرُّونَ}، منَ الآيةِ التي قبلَها على كونِها جَوَابَ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "سُبْحانَ" مَنْصوبٌ عَلى المَفْعولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِفِعلٍ مَحذوفٍ وُجُوبًا، والتقديرُ: نُسَبِّحُ رَبَّنا تَسْبِيحًا، وهو مُضافٌ، و "رَبِّنا" مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ وهو مُضافٌ أَيْضًا، و "نَا" ضميرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمينَ، متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ.
قولُهُ: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} إِنْ: هيَ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقيلَةِ، واسْمُهَا ضَميرُ الشَّأْنِ؛ أَيْ: إِنَّهُ. و "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ، و "وَعْدُ" اسْمُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "رَبِّنا" مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ وهو مُضافٌ أَيْضًا، و "نَا" ضميرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمينَ، متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "لَمَفْعُولًا" اللَّامُ: هي المُزحلقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، و "مفعولًا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصوبٌ بها، وجُملَةُ "كانَ" فِي مَحلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنْ" وَجُمْلةُ "إِنْ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "يَقُولُونَ".