سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} السُّنَّةُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا صَاحِبُهَا. أَيْ: هَكَذَا كانتْ سُنَّةُ اللهِ فِيمَنْ مَضَى مِنَ الأُمَمِ: أَنْ يُهْلِكَ مَنْ عَصَوا الرَّسُولَ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ، لا أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَنَبِيُّهم بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فإِذَا خَرَجَ نَبِيُّهم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ عَذَّبَهمْ. فَالمُرادُ أَنَّهُ ـ جَلَّ وعَزَّ، لا يَدَعُ أُمَّةً اسْتَفَزَّتْ رَسُولَهَا لِتُخْرِجَهُ تَلْبَثُ بَعْدَهُ إِلَّا قَليلًا، وَهَذِهِ السُّنَّةُ هي للهِ ـ تَعَالى، وإنَّما أُضِيفَتْ للرُّسُلِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لأَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، إِنَّما سَنَّها لأَجْلِهم، يَدُلُ عَلَى ذَلِكَ تتمَّةُ الآيةِ: "وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا"، فَأَضَافَها إِلى ذَاتِهِ المُقدَّسةِ العَليَّةِ.
وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: سَنَنَّا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا. فَإِنْ كَانَتْ "سُنَّةَ" اسْمَ مَصْدَرٍ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَنَنَّا ذَلِكَ لِمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ. فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمًا جَامِدًا فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنًى اشْتِقَاقِيٍّ. وَجُمْلَةُ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ سَبَبِ كَوْنِ لُبْثِهِمْ بَعْدَهُ قَلِيلًا. وَعِنْدَ الفَرَّاءِ هُوَ نَصْبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ، أَيْ: (كَسُنَّةِ) ولِذَلِكَ فَلَا وَقْفُ عِنْدَهُ عَلَى آخِرِ الآيَةِ التي قبلها وهو قولُهُ {قَلِيلًا}، فَالْمُرادُ برأْيِهِ تَشْبِيهُ حَالِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِحَالِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ المرسَلينَ لا تَشْبِيهَ الفَرْدِ بِفَرْدٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؛ وَجَوَّزَ العُكبُريُّ أَبُو البَقَاءِ أَنْ يَكونَ مَحلَّ "سُنَّةَ" النَّصْبُ عَلَى المَفْعُوليَّةِ بِفِعْلٍ مقدَّرٍ بـ "اتَّبِعْ سُنَّةَ مَنْ قدْ أرسَلْنا". وَهُوَ خِلافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ المُفَسِّرينَ.
قولُهُ: {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} التَحْويلُ: التَغْييرُ، أَيْ: لا تَجِدُ تَغْييرًا لِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُنا، أَو تبديلًا. فقد خَرَجَ هُودٌ ـ عليهِ السّلامُ، مِنْ دِيَارِ عَادٍ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ صَالِحٌ ـ عليهِ السّلامُ، مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ ـ عليهِما السَّلامُ، وَهَلَكَتْ أَقْوَامُهُمْ. وَإِنَّمَا سَنَّ اللهُ تعالى هَذِهِ السُّنَّةَ لِرُسُلِهِ لِأَنَّ تَآمُرَ أَقْوَامِهم عَلَيهم لإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بَيْنِ ظَهْرانِيهم يَسْتَدْعِي حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى لِأَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِئَلَّا يَبْقَوْا مَرْمُوقِينَ بِعَيْنِ الْغَضَاضَةِ بَيْنَ أَقَوْامِهِمْ وَأَجْوَارِهِمْ.
وَالجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِلَةِ الْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلِأَنَّ عَادَتَنَا لَا تَتَحَوَّلُ. وَالتَّعْبِيرُ بـ "لَا تَجِدُ" مُبَالَغَةٌ فِي النَّفيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} الآية: 17.
قولُهُ تَعَالَى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} سُنَّةَ: مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، تَقْديرُهُ: سَنَّ اللهُ ذَلِكَ سُنَّةَ، واخْتَارَ الفَرَّاءُ نَصْبَهَا بِنَزْعِ الخافِضِ؛ أَيْ: كَسُنَّةِ اللهِ فِي مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ، واخْتَارَ العُكبريُّ أَنْ يُنْصَبَ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: اتَّبِعْ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ، وهو مُضَافٌ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ عَلى السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضَافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "قَدْ" للتَّحْقيقِ. و "أَرْسَلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالفاعِليَّةِ، والجملةُ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَاهُ. و "قَبْلَكَ" مَنْصُوبٌ عَلى الظَرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنا" مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بحالٍ مِنَ العائدِ المَحْذُوفِ، أَوْ مِنْ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، و "رُسُلِنا" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} الواوُ: للعَطْفِ. و "لا" نَافِيَةٌ. و "تَجِدُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، و "لِسُنَّتِنَا" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَحْوِيلًا"، و "سُنَّتِنَا" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ، مُضافٌ، وَ "نَا" التَعْظِيمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "تَحْوِيلًا" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "تَجِدُ" والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "سَنَّ" المَحْذوفَةِ.