وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} الآيةَ: 60، السابقةِ مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ، أَيْ: وَاذْكُرْ ـ يَا مُحَمَّدُ، حِينَ أَوْ وَقْتَ أَوْ يَوْمَ "قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ"، فَمَا زالَ الخِطابُ مُوَجَّهًا لِسَيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، لأَنَّهُ الأَهلُ لِخِطَابِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وذَلِكَ تَعْلِيمًا لَنَا، وتَذْكِيرًا بِمَا جَرَى مِنْهُ ـ تَعَالَى مِنَ الأَمْرِ بالسُّجُودِ لآدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، تَحِيَّةً لَهُ وَتَكْريمًا لِمَا قَالَهُ مِنْ عِلْمٍ علَّمَهُ إِيَّاهُ خالقُهُ ومَوْلاهُ، وما أَبْدَى مِنْ فَضَائِلَ مُسْتَوْجِبَةٍ لِذَلِكَ. وَمَا كانَ مِنِ امْتِثَالِ المَلائكَةِ الكِرامِ، وطاعَتِهِمْ لِخَالِقِهمْ دونَ تردُّدٍ أَو تَبَاطُؤٍ أَوْ تَثْبُّطٍ، وأَدَاءً لِحَقِّهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَذَلِكَ تَحْقيقًا مِنْهُمْ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 57، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {أُولَئِكَ الذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهم أَقْرَبُ}. وَفيهِ تَذْكيرٌ لِنَبِيِّنا محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا لَقِيَ الْأَنْبِيَاءُ، قَبْلَهُ مِنْ مُعَانَدَةِ الْأَعْدَاءِ، وَحَسَدِ الخُصَمَاءِ، مِنْ عَهْدِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِينَ حَسَدَهُ إِبْلِيسُ عَلَى فَضْلِهِ.
قوْلُهُ: {إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} اسْتَثْنَى "إبْلِيسَ" مِنْ المُطِيعِينَ لربِّهم، الخاضِعِينَ لِحُكْمِهِ، المُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ، وَقَدْ كانَ داخِلًا في زُمْرَتِهِمْ، مُنْدَرِجًا تَحْتَ الأَمْرِ بِالسُّجُودُ، لكِنَّ اسْتِكْبَارَهُ وغرورَهُ، وعُجْبَهُ واعْتِدادَهُ بِنَفْسِهِ، جعلَهُ يَخْرُجُ عَنِ طاعَةِ رَبِّهِ، ويَأْبَى تَنْفِيذَ ما أُمِرَ بِهِ، ونَظَرَ إِلَى حقارَةِ المَادَّةِ التي خُلِقَ مِنْها مَنْ أُمِرَ بالسُّجُودِ لَهُ، وَلَمٍ يَنْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ الخالقِ الآمِرِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. فَفَرِيقُ الْكَافِرِينَ، كَالشَّيْطَانِ، وَفَريقُ الْمُؤْمِنينَ كالْمَلَائِكَةِ.
وَهَذا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ مِنْهُ بَعَدَ التَخَلُّفِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قالَ بَعْدَ أَنْ وُبِّخَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَسُوءِ فَعْلَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ كَرَامَةٍ، وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ، وَهَذَا طِينِيٌّ، فَكَانَ بَدْءَ الذُّنُوبِ الْكِبْرُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَاقِبَةِ أُولَئِكَ الذينَ عَانَدُوا الحَقَّ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وكَذَّبُوا الرَّسُولَ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، مِنْ كُفَّارِ قريشٍ وذَلِكَ عُجْبًا وَغُرورًا، وعُلُوًا مِنْهُمْ واسْتِكْبَارًا، وَطَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أَنْ يَأْتِيَهم بِآياتٍ حَسْبَمَا يُريدونَ ويَشْتَهُونَ، فَإِنَّهم قَدْ أَشْبَهُوا إِبْلِيسَ في اسْتِكْبَارِهِ، وَعُتُوِّهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الذُّرِّيَّةِ التي احْتَنَكَها إِبْلِيسُ ـ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ، وَاتَّبَعُوهُ كاتِّبَاعِ الرَّجُلِ ظِلَّهُ، فَهُمْ مُشابِهُونَ لَهُ فِي عِنَادِهِ مُشَارِكونَ لَهَ في مَصيرِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: وَاذْكُرْ قِصَّةَ إِذْ قُلْنَا للمَلائِكَةِ. وَ "قُلْنا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وَ "نَا" التَعْظِيمِ هَذِهِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَاعِلُهُ. وَ "لِلْمَلائِكَةِ" اللامُ: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قُلْنا"، و "الْمَلائِكَةِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافةِ "إِذْ" إِلَيْها.
قوْلُهُ: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} اسْجُدُوا: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لِأَنَّ مُضارِعَهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ. وواوُ الجمَاعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، والأَلِفُ: هِيَ الَفارِقَةُ. و "لِآدَمَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ "اسْجُدُوا"، وَ "آدَمَ" اسمٌ مَجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعَلامَةُ جَرِّهِ هي الفَتْحَةُ نِيَابَةً عَنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ اسْمٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لِـ "قُلْنا".
قولُهُ: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَرْتِيبِ، و "سَجَدُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ. و "إِبْلِيسَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ بـ "إِلَّا". والجُمْلةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "قُلْنا" على كونِها في محلِّ الجَرِّ.
قولُهُ: {قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "إِبْلِيسَ". والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنْ "إِبْلِيسَ". و "أَأَسْجُدُ" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ، و "أَسْجُدُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفَاعِلُهُ ضِميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعودُ عَلى "إِبْلِيسَ". وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لـ "قالَ". و "لِمَنْ" اللامُ: حَرْفُ جَرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْجُدُ" و "مَنْ" اسمٌ موصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "خَلَقْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ، وتاءُ الفاعِلِ: ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرَّفعِ فاعلُهُ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: لِمَنْ خَلَقْتَهُ. و "طِينًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، والعامِلُ فِيهِ "أَسْجُدُ"، أَوْ مِنَ العائِدِ المَحْذوفِ، والعامِلُ "خَلَقْتَ" وَجَازَ وُقوعُ "طِينًا" حَالًا، وإِنْ كانَ جَامِدًا، لِدَلالَتِهِ عَلَى الأَصَالَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مُتَأَصِّلًا مِنْ طِينٍ. أَوْ مَنْصوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ، أَيْ: مِنْ طِينٍ، أَوْ مَفْعُولٌ مِنْهُ، مَنْصُوبٌ بِـ "خَلَقْتَ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَعْرافِ: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} الآيةَ: 155؛ أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ؛ لأَنَّ قَوْمَهُ مَفْعُولٌ بِهِ. وقالَ الزَّجَاجُ، إِنَّهُ نَصْبٌ عَلَى التَمْييزِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، ولا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يُتَقَدَّمْ إِيهامُ ذَاتٍ وَلَا نِسْبَةٍ.