وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا (82)
قولُهُ ـ جَلَّ وَعَلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} أَيْ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ: مَا هُوَ بَيَانٌ، وَذَلِكَ لِمَا فِي "مَا" مِنَ الْإِبْهَامِ. وَقُدِّمَ الْبَيَانُ لِغَرَضِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ الكريمِ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ: "مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ"، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنْهُ بِحَيْثُ يُعْرَفُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: ونُنَزِّلُ الشِّفَاءَ وَالرَّحْمَةَ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: هو شِفَاءٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ البَيَانِ. وَلَيْسَتْ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ وَلَا لِلِابْتِدَاءِ وإنَّما هي لبيانِ الجِنْسِ، وشبيهُ هذه الآيةِ الكريمةِ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحَجِّ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} الْآية: 30، أَيِ: اجتنبوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. والشِّفَاءُ: زَوَالُ الدَّاءِ مِنْ جِسْمِ ابْنِ آدمَ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي زَوَالِ مَا هُوَ نَقْصٌ وَضَلَالٌ، وَعَائِقٌ لَهُ عَنِ النَّفْعِ، مِنَ عَقَائِدَ بَاطِلَةٍ، وأَعْمَالٍ فَاسِدَةٍ، وَأَخْلَاقٍ ذَمِيمَةٍ، تَشْبِيهًا لَهُ بِبُرْءِ السَّقَمِ، كَما هُوَ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ العَبْسِيِّ مِنْ مُعَلَّقَتِهِ الشَّهيرَةِ:
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا .......... قِيلُ الْفَوَارِسِ: وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ الكريمَ كُلَّهُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْ آياتِهِ، مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَوَاعِظِهِ وَقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، كُلُّ آيَةٍ مِنْ ذَلِكَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَصَلَاحِ حَالٍ للْمُتَّبِعِيهِ. فَـ "مِنْ" هُنَا هِيَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ، فكَأَنَّهُ قَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ ورَحْمَةٌ للمُؤْمِنينَ. وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ تَكُونَ "مِنَ" لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ يُحْفَظُ مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ أَنَّ بَعْضَهُ لَا شِفَاءَ فِيهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ هَذَا، بَلْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ "مِنَ" في الآيةِ لِلتَّبْعِيضِ بِحَسَبِ أَنَّ إِنْزَالَهُ إِنَّمَا هُوَ مُبَعَّضٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا شِفَاءً، مَا فِيهِ كُلُّهُ شِفَاءٌ.
وَللْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِ القرآنِ الكريمِ شِفَاءً، قوْلانِ، أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ بِزَوَالِ الْجَهْلِ عَنْهَا وَإِزَالَةِ الرَّيْبِ منها، وَلِكَشْفِ غِطَاءِ الْقَلْبِ مِنْ مَرَضِ الْجَهْلِ لِفَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللهِ تَعَالَى. أَمَّا الثَّاني: فهوَ أَنَّ القرآنَ الكريمَ شِفَاءٌ أَيضًا مِنَ الْأَمْرَاضِ الظَّاهِرَةِ، وذَلِكَ بِالرُّقَى وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ. فقَدْ جاءَ فِي (الْأَفرادِ) للدَّارَ قُطْني مِنْ حَدِيثِ أَبي هرَيْرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: (مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شَفَاهُ اللهُ). وأَخْرَجَ ابْنُ قانِعٍ وأَبُو نُعيمٌ عَنْ أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ، قالَ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي سَاكِنَةُ بِنْتُ الْجَعْدِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَجَاءً الْغَنَوِيُّ، يَقُولُ ـ وَكَانَتْ أُصِيبَتْ يَدُهُ يَوْمَ الْجَمَلِ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اسْتَشْفُوا بِمَا حَمِدَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحْمَدَهُ خَلْقُهُ، وَبِمَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ)). قُلْنَا: وَمَاذَا ـ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((الْحَمْدُ، وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ فَلَا شَفَاهُ اللهُ)). وَقَالَ رَجَاءٌ الْغَنَوِيُّ: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شِفَاءَ لَهُ). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الباقِي بْنُ قَانِعٍ: (1/215). وأَبو نُعَيْمٍ فِي (مَعْرفَةُ الصَّحَابَةِ) لَهُ: (2/1127، برَقم: 2831). قالَ العَلَّامَةُ المَنَاوِي ـ رَحِمَهُ اللهُ: (1/491): أَشَارَ الذَهَبِيُّ في (تَاريخُ الصَّحَابَةِ) إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الخَبَرِ، فقالَ في تَرْجَمَةِ "رَجاءٍ" هَذا: لَهُ صُحْبَةٌ، نَزَلَ البَصْرَةَ، ولَهَ حَديثٌ لَا يَصِحِّ، في فَضْلِ القُرْآنِ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ـ وَاللَّفْظُ لِلدَّارَ قُطْنِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في سَرِيَّةٍ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، قَالَ: فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا، فَأَبَوْا، قَالَ: فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَأَتَوْنَا، فَقَالُوا: فِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ (وفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَتَّةَ): إِنَّ الْمَلِكَ يَمُوتُ. قَالَ: قُلْتُ أَنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطُونَا. فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً. قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ. (فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ): فَأَفَاقَ وَبَرَأَ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالنُّزُلِ وَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالشَّاءِ، فَأَكَلْنَا الطَّعَامَ، أَنَا وَأَصْحَابِي، وَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الْغَنَمِ، حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي. قَالَ: ((كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ)). خَرَّجَهُ فِي كِتَابِ السُّنَنِ. وَخَرَّجَ فِي (كِتَابِ الْمَدِيحِ) مِنْ حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((يَنْفَعُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَطْنِ وَالسُّلِّ وَالْحُمَّى وَالنَّفْسِ أَنْ تَكْتُبَ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ بِمِشْقٍ ـ يَعْنِي الْمَغْرَةُ، أَعُوَّذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ، وَأَسْمَائِهِ كُلِّهَا عامَّةً، مِنْ شَرِّ السَّامَّةِ والعامَّةِ، وَمِنْ شَرِّ الْعَيْنِ اللَّامَّةِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وَمِنْ أَبِي فَرْوَةَ وَمَا وَلَدَ)). كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ شَرِّ أَبِي فِتْرَةَ (إِبْليس). الْعَيْنُ اللَّامَّةُ: الَّتِي تُصِيبُ بِسُوءٍ. تَقُولُ: أُعِيذُهُ مِنْ كُلِّ هَامَّةٍ لَامَّةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُعِيذُهُ مِنْ حَادِثَاتِ اللَّمَّةِ فَيَقُولُ: هُوَ الدَّهْرُ. وَيُقَالُ الشِّدَّةُ. وَالسَّامَّةُ: الْخَاصَّةُ. يُقَالُ: كَيْفَ السَّامَّةُ وَالْعَامَّةُ. وَالسَّامَّةُ السُّمُّ. وَمِنْ أَبِي فَرْوَةَ وَمَا وَلَدَ. وَقَالَ: ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَتَوْا رَبَّهُمْ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالُوا: وَصَبٌ بِأَرْضِنَا. فَقَالَ: خُذُوا تُرْبَةً مِنْ أَرْضِكُمْ فَامْسَحُوا نَوَاصِيَكُمْ. أَوْ قالَ: نَوَاصِيكُمْ رُقْيَةَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَفْلَحَ مَنْ كَتَمَهَا أَبَدًا، أَوْ أَخَذَ عَلَيْهَا صَفَدًا. ثُمَّ تَكْتُبُ فاتِحَةَ الكِتابِ وأَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية: 164، مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ مَوْضِعِ (للهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} إِلَى آخِرِهَا، وَعَشْرًا مِنْ أَوَّلِ (آلِ عِمْرَانَ) وَعَشْرًا مِنْ آخِرِهَا، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الْمَائِدَةِ، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَأَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الْأَعْرَافِ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين} الآية: 54، مِنْ سُورةِ الأعرافِ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي يُونُسَ مِنْ مَوْضِعِ {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين} الآية: 81، مِنْ سورة يُونُس. وَالْآيَةَ الَّتِي فِي طَهَ: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} الآيةَ: 69، منْ سُورَةِ طَهَ. وَعَشْرًا مِنْ أَوَّلِ الصَّافَّاتِ، وَ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. تُكْتَبُ فِي إِنَاءٍ نَظِيفٍ ثُمَّ تُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ نَظِيفٍ ثُمَّ يَحْثُو مِنْهُ الْوَجِعُ ثَلَاثَ حَثَوَاتٍ ثُمَّ يَتَوَضَأُ مِنْهُ كَوُضُوئِهِ للصَّلاةِ وَيَتَوَضَّأُ قَبْلَ وُضُوئِهِ لِلصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى طُهْرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ وَصَدْرِهِ وَظَهْرِهِ، وَلَا يَسْتَنْجِي بِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَشْفِي اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَدْرَ مَا يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كِتَابًا. وفِي رِوَايَةٍ: وَمِنْ شَرِّ أَبِي قِتْرَةٍ وَمَا وَلَدَ. وَقَالَ: "فَامْسَحُوا نَوَاصِيَكُمْ" وَلَمْ يَشُكَّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ـ رضِيَ اللهُ عنْها وأَرْضَاهَا، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا. فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ كَيْفَ كَانَ يَنْفُثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، عَنْ خالَتِهِ عَنِ السيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْها وأَرْضَاهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا اشْتَكَى قَرَأَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَتَفَلَ أَوْ نَفَثَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ اللُّغَوِيُّونَ تَفْسِيرُ "نَفَثَ" نَفَخَ نَفْخًا لَيْسَ مَعَهُ رِيقٌ. وَمَعْنَى "تَفَلَ" نَفَخَ نَفْخًا مَعَهُ رِيقٌ. ومِنْهُ قَولُ عَنْتَرَةَ العَبْسِيِّ:
فَإِنْ يَبْرَأْ فَلَمْ أُنْفِثْ عَلَيْهِ .................... وَإِنْ يَفْقِدْ فَحَقَّ لَهُ الْفُقُودُ
وَمِنْهُ أَيْضًا قَولُ ذُي الرُّمَّةِ:
وَمِنْ جَوْفِ مَاءٍ عَرْمَضِ الْحَوْلِ فَوْقَهُ ... مَتَى يَحْسُ مِنْهُ مَائِحُ الْقَوْمِ يَتْفُلِ
أَرَادَ يَنْفُخُ بِرِيقٍ. ورَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانَ يَكْرَهُ الرُّقَى إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ فِي الدِّينِ، إِذْ فِي نَقَلَتِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ إِمَّا غَلَطًا وَإِمَّا مَنْسُوخًا، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، فِي الْفَاتِحَةِ ((مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ)). وَإِذَا جَازَ الرَّقْيُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَهُمَا سُورَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ كَانَتِ الرُّقْيَةُ بِسَائِرِ الْقُرْآنِ مِثْلَهُمَا فِي الْجَوَازِ إِذْ كُلُّهُ قُرْآنٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَنَّهُ قَالَ: ((شِفَاءُ أُمَّتِهِ فِي ثَلَاثِ آيَةٍ، مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ لَعْقَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةٍ مِنْ مِحْجَمٍ".
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّشْرَةِ، وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ الْمَرِيضَ أَوْ يَسْقِيهُ، فَأَجَازَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَلُّ عَنْهُ وَيُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ. وَلَمْ يَرَ مُجَاهِدٌ أَنْ تُكْتَبَ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ تُغْسَلُ ثُمَّ يُسْقَاهُ صَاحِبُ الْفَزَعِ. وَكَانَتْ السيِّدةُ عَائِشَةُ ـ رضِيَ اللهُ عنها، تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ. وَقَالَ الْمَازِرِيَّ أَبُو عَبْدِ اللهِ: النُّشْرَةُ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّعْزِيمِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ عَنْ صَاحِبِهَا أَيْ تَحُلُّ. وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، قَالَ النَّخَعِيُّ: أَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ بَلَاءٌ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَا مُحِيَ بِهِ القُرْآنُ فَهُوَ إِلَى أَنْ يعب بَلَاءً أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يُفِيدَ شِفَاءً. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلْتُ أَنَسًا فَقَالَ: ذَكَرُوا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النُّشْرَةِ فَقَالَ: ((مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)). قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهَذِهِ آثَارٌ لَيِّنَةٌ وَلَهَا وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَعَى الْمُدَاوَاةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ فَهِيَ غُسالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ، فَهِيَ كَوُضُوءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ـ صَلَواتُ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: ((لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ وَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ)).
قَالَ الإمامُ مَالِكٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: لَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَعْنَاقِ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا إِذَا لَمْ يُرِدْ مُعَلِّقُهَا بِتَعْلِيقِهَا مُدَافَعَةَ الْعَيْنِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعَلَّقَ ـ عَلَى الصَّحِيحِ، مِنَ البَهائِمِ، أَوْ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ مِنَ الْعَلَائِقِ خَوْفَ نُزُولِ الْعَيْنِ، وَكُلُّ مَا يُعَلَّقُ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِتَابِهِ الكريمِ رَجَاءَ الْفَرَجِ وَالْبُرْءِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَالرُّقَى الْمُبَاحِ الَّذِي وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِإِبَاحَتِهِ مِنَ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو ـ رضيَ اللهُ عنهُما، قال، قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي نَوْمِهِ فَلْيَقُلْ أَعُوَذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَسُوءِ عِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ)). وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُعَلِّمُهَا وَلَدَهُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ كَتَبَهَا وَعَلَّقَهَا عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ في مُصَنَّقِهِ: (5/44)، والطَبَرانِيُّ في (الدُّعاءِ) (ص: 333)، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَخْرَجَ الطَبَرانِيُّ في المُعْجَمِ الكَبيرِ: عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي لَيْلَى، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، نَعُودُهُ، فَقُلْنَا: أَلَا تُعِلِّقُ شَيْئًا؟ قَالَ: الْمَوْتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)). المُعْجَمُ الكبيرُ للطَبَرانيِّ: (22/385، رقم: 960)، ومعجمُ الصَّحَابَةِ لابْنِ قانِعٍ: (3/489). وأَخْرَجَ الإِمامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَغَيرُهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عنِ النبيِّ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، قال: ((مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/156، رقم: 17458) قالَ ابْنُ حجرٍ الهيثميُّ: (5/103): رِجالُهُ ثِقاتٌ. وأَخْرَجَهُ الحاكِمُ في مُستدركِهِ: (4/243، رقم: 7513)، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الحارثُ كَمَا فِي بُغْيَةِ الباحِثِ (2/600، رقم: 563). وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ تَمِيمَةً مَرْبُوطَةً فَجَبَذَهَا جَبْذًا شَدِيدًا، فَقَطَعَهَا، وَقَالَ: إِنَّ آلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَأَغْنِيَاءٌ عَنِ الشِّرْكِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ التَّمَائِمَ وَالرُّقَى وَالتِّوَلَةَ مِنَ الشِّرْكِ). قِيلَ: مَا التِّوَلَةُ؟ قَالَ: مَا تَحَبَّبَتْ بِهِ لِزَوْجِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ قَلْبًا)). قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: التَّمِيمَةُ قِلَادَةٌ فِيهَا عُوَذٌ، وَالْوَدَعَةُ خَرَزٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً خَشْيَةَ مَا عَسَى أَنْ يَنْزِلَ أَوْ لَا يَنْزِلَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فَلَا أَتَمَّ اللهُ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَعَافِيَتَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً، ـ وَهِيَ مِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى، فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ)). أخرجهُ الأئمَّةُ: أحمدُ في مُسندِهِ: (4/154)، والحاكمُ في مُستدْركِهِ: (4/216)، وقالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ووافَقَهُ الإمامُ الذَّهَبِيُّ. والبيهقي: (9/350)، والطَبَراني: (17/820)، وأَبو يَعْلى الموصليُّ: (1759)، والطَحَاوِيُّ: (4/325)، وابْنُ حِبَّانَ في صَحيحِهِ: (13/450). أَيْ فَلَا تَرَكَ اللهُ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ، أَوْ نَحْوِ هَذَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. التَمْهيدُ لِمَا فِي المُوَطَّأِ مِنَ المَعاني والأَسانيدِ: (17/163).
وَهَذَا كُلُّهُ تَحْذِيرٌ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ وَالْقَلَائِدِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَقِيهُمْ وَتَصْرِفُ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَصْرِفُهُ إِلَّا اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الْمُعَافِي وَالْمُبْتَلِي، لَا شَرِيكَ لَهُ. فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَعَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأَرضاها، قَالَتْ: (مَا تَعَلَّقَ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَلَيْسَ مِنَ التَّمَائِمِ). رَواهُ أبو عُمَرَ القُرطُبيُّ في التَمْهيدِ لِمَا في المُوَطَّأِ مِنَ المَعَاني والأَسانِيدِ: (17/164) عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ تَعْلِيقَ التَّمِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَبْلَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَبَعْدَهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ وَبِاللهِ الْعِصْمَةُ وَالرَّشَادُ. وروى أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ، قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمَعَالِيقِ؟ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ يُعَلَّقُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، قَالَ: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) قَالَ إِسْحَاقُ وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مُبَاحٌ لَهُ وروى عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعيِّ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يُكْرَهُ تَعْلِيقُ الْمُعَاذَةِ مِنْ أَجْلِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، وَأَمَّا ما رَوَاهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (4/345)، وأَبو داودَ: (2553)، والنَّسائيًّ في "المُجْتَبَى": (6/218)، وفِي "الكُبْرَى": (3/37، رقم: 4406)، وأَبو يَعْلى: (13/88، رقم: 7170)، والطَبَراني في "الكَبيرِ": (22/380، رقم: 949)، والبَيْهَقِيُّ: (6/380)، مِنْ حَديثِ أَبي وَهْبٍ الجُشَمِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((قَلِّدُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ)). فَلَيْسَ مِنْ قَلَائِدِ الْإِبِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي الْخَيْلِ مَا ذَكَرَهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي تَأْوِيلِهِ، قَالَ وَكِيعٌ مَعْنَاهُ لَا تَرْكَبُوهَا فِي الْفِتَنِ فَمَنْ رَكِبَ فَرَسًا فِي فِتْنَةٍ لَمْ يَسْلَمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وَتَرٌ يُطْلَبُ بِهِ إِنْ قَتَلَ أَحَدًا عَلَى فَرَسِهِ فِي مَخْرَجِهِ فِي الْفِتْنَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي خُرُوجِهِ ذَلِكَ ظَالِمٌ، قَالَ وَلَا بَأْسَ بِتَقْلِيدِ الْخَيْلِ قَلَائِدَ الصُّوفِ الْمُلَوَّنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَوْفَ نُزُولِ العَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ كُرِهَ تَقْلِيدُ الْأَوْتَارِ لِئَلَّا تُخْنَقَ الدَّابَّةُ أَوِ الْبَهِيمَةُ فِي خَشَبَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ فَتَقْتُلَهَا، وإِذا كانَ ذَلِكَ خَيْطًا انْقَطَعَ سَريعًا. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمَا كُرِهَ تَعْلِيقُهُ غيْرَ القرآنِ، أَشياءَ مَأْخوذَةً عَنِ العِراقِيِّينَ وَالْكُهَّانِ، إِذْ الِاسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ مُعَلَّقًا وَغَيْرَ مُعَلَّقٍ لَا يَكُونُ شِرْكًا، وَقَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)). فَمَنْ عَلَّقَ الْقُرْآنَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ اللهُ وَلَا يَكِلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَرْغُوبُ إِلَيْهِ وَالْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي الاسْتِشْفَاءِ بِالقُرْآنِ. وَسُئِلَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، عَنِ التَّعْوِيذِ أَيُعَلَّقُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ فِي قَصَبَةٍ أَوْ رُقْعَةٍ يُحْرَزُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ قُرْآنٌ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَلِّقَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِذَا وَضَعَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ الْغَائِطِ. وَرَخَّصَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُم، فِي التَّعْوِيذِ يُعَلَّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، لَا يَرَى بَأْسًا بِالشَّيْءِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّقُهُ الْإِنْسَانُ.
قوْلُهُ: {رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: هوَ تَفْرِيجٌ لِكُرُوبِهم، وَتَطْهِيرٌ لِعُيُوبِهم، وَتَكْفِيرٌ لِذُنُوبِهم، مَعَ مَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى مِنَ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهِ، فقدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، بَلْ أَلْفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)). وقَالَ التِرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وأَخرجَهَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ، وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ بْنُ نَصْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي كتابِهِ (الْوَقْفِ والابْتِداءِ)، والخَطيبُ البَغْداديُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ فِي كتابِ (الإِبانَةِ) لَهُ.
قولُهُ: {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا} لِتَكْذِيبِهم رَسُولَ ربِّهم. قَالَ قَتَادَةُ ـ رضِي اللهُ عنْهُ: مَا جَالَسَ أَحَدٌ الْقُرْآنَ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، ثُمَّ قَرَأَ: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" الْآيَةَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} الآية: 44. أَيْ: إِنَّ هذا القُرْآنَ الكَريمَ بقدْرِ ما هُوَ شِفَاءٌ للمُؤَمِنِينَ وَهِدايَةٌ، فهُوَ زِيادةٌ في خَسَارَةِ الْكَافِرِينَ، بِمَا يُوَسْوِسُ لَهُمُ الشَّيْطانُ في آياتِهِ، فَيُفَسِّرونَها بِعَكسِ المُرَادِ مِنْها، ويَحْمِلُونَها عَلَى غَيْرِ ما يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ، ويَبُثُّ فِي نُفُوسِهِمُ الشُّكوكَ فيهِ، والتَكْذيبَ لَهُ، لِيَزْدادَ إِثْمُهُم، ويَعْظُمَ جُرْمُهُمْ، ولِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ منْ آياتِهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَزِيدُ غَيْظَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى الظُّلْمِ، أَيِ الشِّرْكِ، فَيَزْدَادُونَ بِالْغَيْظِ كَرَاهِيَةً لِلْقُرْآنِ، فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خُسْرًا بِزِيَادَةِ آثَامِهِمْ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى فَاسِدِ أَخْلَاقِهِمْ، وَبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِخالقِهم ورَبِّهم. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} الآيَتان: (124 ـ 125).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: اللهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ شِفَاءً وَرَحْمَةً للْمُؤْمِنينَ إِذا سَمِعَهُ الْمُؤْمِنُ انْتَفَعَ بِهِ وَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ، "وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمينَ إِلَّا خَسَارًا" لَا ينْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يَعِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَيِّدِ التَّابِعِينَ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأَرْضَاهُ، أَنَّهُ قَالَ: لم يُجَالِسْ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانِ، قَضَاءً مِنَ اللهِ الَّذِي قَضَى: "شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنينَ، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمينَ إِلَّا خَسَارًا".
قولُهُ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "نُنَزِّلُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. و "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ لبيانِ الجِنْسِ، مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "ما" المَوْصُولَةِ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ مُقَدَّمٌ، وهو ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأَبْو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ. وَرَدَّ الشَّيْخُ أبو حيَّان الأندلُسِيُّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ التي للبَيَانِ لا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَها مَا تُبَيِّنُهُ، لَا أَنْ تَتَقَدَّمَ هِيَ عَلَيْهِ، وَهُنَا قَدْ وُجِدَ تَقْديمُها عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ لابْتِداءِ الغايَةِ، أَوْ تَبْعِيضِيَّةً فَتَتَعَلَّقُ حِينَئِذٍ بِـ "نُنَزِّلُ"، وهو ما اخْتَارَهُ أَبو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ. وأَنْكَرَ الحُوفِيَّ أَنْ تكونَ للتَبْعيضِ، قالَ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكونَ بَعْضُهُ شِفَاءً. وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ إِنْزَالَهُ إِنَّمَا هوَ مُبَعَّضٌ. وَهَذَا الجَوَابُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَأَجابُ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ بِأَنَّ مِنْهُ مَا يَشْفي مِنَ المَرَضِ. وَقَدْ وُجِدَ هذا بِدَلِيلِ رُقْيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ سَيِّدَ الحَيِّ الذي لَدَغَتْهُ الأَفَعى، فشُفِيَ بالفاتِحَةِ، كما تقدَّمَ بيانُهُ آنِفًا في مَبْحَثِ التَفْسِيرِ. وَ "الْقُرْآنِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "هُوَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "شِفاءٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةٌ لِـ "ما" أَوْ صِفَةٌ لَهَا. و "رَحْمَةٌ" مَعْطوفٌ عَلَى "شِفَاءٌ". و "لِلْمُؤْمِنِينَ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شِفَاءٌ" أَوْ بِـ "رَحْمَةٌ" عَلَى سَبِيلِ التَنَازُعِ، و "الْمُؤْمِنِينَ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ.
قوْلُهُ: {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا} الواوُ: حَالِيَّةٌ، وَ "لا" نَافِيَةٌ. و "يَزِيدُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى القُرْآنِ الكَريمِ، و "الظَّالِمِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ منصوبٌ وعلامةُ نصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَنْوينِ فِي الاسْمِ المُفْرَدِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، (أَداةُ حَصْرٍ). و "خَسَارًا" مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "ما" المَوْصُولَةِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {وَنُنَزِّلُ} بِرفْعِ نُونِ العَظَمَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ "وَيُنْزِلُ" بِيَاءِ الغَيْبَةِ خَفِيفَةً، وَرَوَاهَا المَرْوَزِيُّ عَنْ حَفْصٍ أَيْضًا.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {شِفاءٌ}، وَ {رَحْمَةٌ} بالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُما خَبَرَيْنِ لِـ "هُوَ"، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" وقرأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِما، وَخُرِّجَتْ قِراءَتُهُ عَلَى أَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الحالِ، والصِلَةُ حِينَئِذٍ "للمُؤْمِنينَ" وَقُدِّمَتِ الحَالُ عَلَى عَامِلِهَا المَعْنَوِيِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الزُمَرِ: {والسَمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الآية: 67، في قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ "مَطْوِيَّاتٍ". وكَقَولِ النَّابِغَةِ الذًبيانيِّ:
رَهْطُ ابْنِ كُوْزٍ مُحْقِبي أَدْراعَهُمْ ............ فِيهم، ورَهْطُ رَبيعَةَ بْنِ حُذارِ
وقِيلَ: هما مَنْصوبانِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَقْديمَهَا عَلى عامِلِها المَعْنَوِيِّ. وَقالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَأَجَازَ الكِسائيُّ: "وَرَحْمَةً" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "مَا". فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الكِسَائِيَّ أَبْقى "شِفَاءٌ" عَلَى رَفْعِهِ، وَنَصَبَ "رَحْمَةً" فَقَطْ عَطْفًا عَلَى "مَا" المَوْصُولَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ رَحْمَةً، وَلَيْسَ في نَقْلِهِ مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ تَلَاهَا قُرْآنًا.