وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَزَّ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ: كادُوا يُزْعِجونَكَ بِعَدَاوَتِهِمْ ومَكْرِهمْ ليُخْرِجُونَكَ مِنْ أَرْضِكَ ودارك وبَلَدِكِ مكَّةَ المُكَرَّمةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ هَمُّتْ قريشُ أَنْ تُخْرِجَهُ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كُرْهًا مِنْ دارِهِ وبَلَدِهِ، ثُمَّ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ حِينَ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلى المدينةِ المُنَوَّرَةِ دُونَ عِلْمٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمُ ارْتَأَوْا بَعْدَ زَمَانٍ أَنْ يُبْقُوهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوهُ. والِاسْتِفْزَازُ: الْحَمْلُ عَلَى التَّرَحُّلِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ "فَزَّ" بِمَعْنَى بَارَحَ الْمَكَانَ، أَيْ كَادُوا أَنْ يَسْعَوْا أَنْ تَكُونَ فَازًّا، خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ. فالتَّعْرِيفُ فِي "اَلْأَرْضِ" للْعَهْدِ، أَيْ مِنْ أَرْضِكَ وَهِيَ مَكَّةُ المُكرَّمةُ حرسَها اللهُ.
قوْلُهُ: {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} تَعْلِيلٌ لِاسْتِفْزَازِهم لَهُ المَذْكورِ آنِفًا، أَيِ: يَسْتَفِزُّونَك اسْتِفْزَازًا لِقَصْدِ إِخْرَاجِكَ منْ أَرْضِكِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِخْرَاجِ هُنَا: مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ دُونَ رُجُوعٍ إِلَيْهِ البتَّةَ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ عِلَّةً لِلِاسْتِفْزَازِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْزَازَ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْرَاجِ.
قوْلُهُ: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} اللُّبْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ لَا يَسْتَقِرُّونَ فِي مَكَّةَ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُونَ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا" قَالَ: يَعْنِي بِالْقَلِيلِ يَوْمَ أَخَذَهُمْ بِبَدْرٍ فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقَلِيلَ الَّذِي كَانَ كَثِيرًا بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الْقَلِيلُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ" قَالَ: هَمَّ أَهْلُ مَكَّةَ بِإِخْرَاجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ مَكَّةَ، وَقَدْ فَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَلمْ يَلْبَثُوا بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا، حَتَّى أَهْلَكَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذَا فَعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مكَّةَ مُهَاجِرًا إلى المدينةِ، وَكَانُوا هُمُ السَّبَبَ فِي خُرُوجِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَكَأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثِ بَعْدَهُ أُولئكَ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِي إِخْرَاجِهِ، وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ قَوْمَهُمْ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الزَمَانِ، حَيْثُ خَرَجُوا إِلَى وَقْعَةٍ بَدْرٍ فَلَقُوا حَتْفَهُمْ هُنَالِكَ وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى دِيَارِهم في مَكَّةَ، التي أَخْرَجوهُ مِنْها، وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، وَأَبْقَى اللهُ عَامَّتَهم، ودَهْماءَهُمْ لِضَعْفِ كَيْدِهِمْ، فَقَدْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَّ مُخْرِجِيهِ الذينَ تَسَبَّبُوا فِي خُرُوجِهِ، لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الزمَنِ.
و "خَلْفَكَ" أَيْ بَعْدَكَ. وَأَصْلُ الْخَلْفِ الْوَرَاءُ، فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَكَ.
والجُمْلَةُ: عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَإِنْ كادُوا}، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ وَيكونُ "إِذًا" ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: "لَا يَلْبَثُونَ" وَهِي "إِذا" الْمُلَازِمَةُ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَهِيَ الَّتِي نُونُهَا حَرْفٌ مِنَ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنْ كَثُرَتْ كِتَابَتُهَا بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الِاسْمِ الْمُنَوَّنِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبًا بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ جَازَ رَفْعُ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا وَنَصْبُهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٍ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا للزَّمَانِ، وَتَنْوينُها عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ. وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ. لأَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ لَمْ يَنْتَصِبْ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا نَادِرًا، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذًا أَخْرَجُوكَ أَوْ وَإِذًا خَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا.
وجاءَ في أَسْبابِ نزولِ هذهِ الآيةِ الكريمةِ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَسْكُنُونَ الشَّامَ، فَمَالَكَ وَالْمَدينَةِ؟ فَهَمَّ أَنْ يَشْخَصَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قولَهُ: "وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنْ حَضْرَمِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ بُلِّغَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قَالَ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَرْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَرْضُ الشَّامِ، وَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ" الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فالْحَقْ بِالشَّامِ فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَصَدَّقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا قَالُوا، فَغَزَا تَبُوكَ، لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ، أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَا خُتِمْتِ السُّورَةُ: "وَإِنْ كَادُوا لِيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ" الْآيَةَ. إِلَى قَوْلِهِ: "تَحْويلًا" فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا مَحْيَاكَ، وَفِيهَا مَمَاتُكَ، وَفِيهَا تُبْعَثُ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَلْ رَبَّكَ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مَسْأَلَةٌ. فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَ؟ قَالَ: {قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مَدْخِلَ صِدْقٍ، وأَخْرِجْنِي مَخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}. فَهَؤُلَاءِ نَزَلْنَ عَلَيْهِ فِي رَجْعَتِهِ مِنْ تَبُوكٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "إِنْ" هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقيلَةِ. و "كادُوا" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كادَ"، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. و "لَيَسْتَفِزُّونَكَ" اللَّامُ: فارِقَةٌ بَيْنَ "إِنْ" المخفَّفةِ وَبَيْنَ "إِنْ" النافِيَةِ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ نَاسِخٍ هُوَ "كادَ"، وهوَ مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، وَمَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ أَنَّ "إنْ" هنا بِمَعْنَى "مَا" النافِيَةِ، واللامُ بِمَعْنَى "إِلَّا". و "يَسْتَفِزُّونَكَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، وكافُ الخِطَابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ به. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَ "الأَرْضِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كَادَ"، وَجُمْلَةُ "كاد" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنْ" المُخَفَّفَةِ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" المُخَفَّفَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} الآيةَ: 73، السَّابِقَةِ عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {لِيُخرجوك منها} اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، وتَعْلِيلِ، و "يُخْرِجُوكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بـ "أَنْ" مضمرةٍ بعدَ لامِ "كي"ِ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذفُ النونِ منْ آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، وَجُمْلَةُ أَنْ المُضْمَرَةِ مَعَ مَدْخُولِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِاللامِ، والتقديرُ: لإِخْراجِكَ.
قولُهُ: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "إِذًا" حَرْفُ جَوَابٍ، وَجَزَاءٍ، مُقَدَّرٌ بِـ "لَوْ" الشَّرْطِيَّةِ، والتَقْديرُ: وَلَوْ أَخْرَجُوكَ. و "لا" نَافِيَةٌ. و "يَلْبَثُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، و "خِلافَكَ" مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزَّمَنِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَلْبَثُونَ"، لأَنَّهُ بِمَعْنَى "بَعْدَكَ" كَمَا مَرَّ سابقًا، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. و "قَلِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، لأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: إِلَّا لبْثًا قَلِيلًا، ويَجُوزُ أَنْ تكونَ صفةً لِزَمَانٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: إِلَّا زَمَانًا قَلِيلًا. وجُمْلَةُ "يَلْبَثُونَ" جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، تَقْديرُهُ؛ وَاللهِ لَا يَلْبَثُونَ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذوفِ جَوابُ "لَوْ" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ لَوْ المُقَدَّرَةِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَإِنْ كادُوا}.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ} بِرَفْعِ الفِعْلِ بَعْدَ "إذًا" ثَابِتَ النُّونِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي مَصَاحِفِ العامَّةِ. وَرَفَعُهُ، وَعَدَمُ إِعْمَالِ "إِذًا"، فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ هِيَ:
الأَوَّلُ: أَنَّهَا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطوفِ عَلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "فَإِنْ قَلْتَ: مَا وَجْهُ القِراءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: أَمَّا الشَّائعَةُ ـ يَعْني بِرَفْعِ الفِعْلِ، فَقَدْ عُطِفَ فِيهَا الفِعْلُ عَلَى الفِعْلِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِوُقوعِهِ خَبَرَ "كادَ"، وَخَبَرُ "كاد" وَاقِعٌ مَوْقِعَ الاسْمِ. قالَ السَّمينُ: فَيَكونُ "لَا يَلْبِثُون" عَطْفًا عَلَى قوْلِهِ "لِيَسْتَفِزُّونك".
الثاني: أَنَّها مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ قِسْمٍ مَحْذوفٍ وَجَوَابِهِ، فَأُلْغِيَتْ لِذَلِكَ، والتَقْديرُ: وَوَاللهِ إِذَنْ لا يَلْبَثُونَ.
الثالثُ: أَنَّها مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ وَخَبَرِهِ، فَأُلْغِيَتْ لِذَلِكَ،
والتَقْديرُ: وَهُمْ إِذَنْ لَا يَلْبَثُونَ.
وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كعبٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، بِحَذْفِ النُّون، فَنَصْبُهُ بِـ "إِذَنْ" عِنْدَ الجُمْهُورِ، وبـ "أَنْ" مُضْمَرَةً بَعْدَها مِنْ غَيْرِهم، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ "لا يَلْبَثُوا" بِحَذْفِها. وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلِ الفِعْلُ مَعْطوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلا جَوابًا، ولا خَبَرًا. قَالَ الزَمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا قِراءَةُ أُبَيٍّ فَفِيها الجُمْلَةُ بِرَأْسِهَا التي هِيَ: "إِذًا لا يَلْبثوا"، عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ}.
وقرَأَ عَطَاء: {لا يَلَبَثُونَ} بِضَمِّ الياءِ وَفَتْحِ اللامِ والباءِ، مُشَدَّدَةً مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، مِنْ لَبَّثَهُ بِالتَشْديدِ. وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الباءَ، جَعَلَهُ مَبْنِيًّا للفاعِلِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {خَلْفَكَ} بِفَتْحِ الخاءِ، وَسُكونِ اللامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ "خِلافَكَ" بِكَسْرِ الخاءِ، وأَلِفٍ بَعْدَ اللامِ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي "خَلْفٍ". والقِراءَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَأَنْشَدُوا في ذَلِكَ للأَحْوَصِ:
عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ........... بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا
وقالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} الآيةَ: 81،
والمَعْنَى: بَعْدَ خُروجِكَ. وَكَثُرَ إِضَافَةُ "قَبْل" و "بعد" وَنَحْوِهِمَا إِلَى أَسْماءِ الأَعْيَانِ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، فَيُقَدَّرُ مِنْ قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو: أَيْ: قَبَلَ مَجِيئِهِ.