وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} التَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا، مُتَمَكِّنًا مِنْ مَكَانِهِ غَيْرَ مُقَلْقَلٍ وَلَا مَقْلُوعٍ مِنْ مَكانِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِبَقَاءِ الشيءِ عَلَى حَالِهِ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَكْمِلَةِ مَا قَبْلَهُ، وَيَكُونُ الرُّكُونُ إِلَيْهِمْ فِيمَا سَأَلُوهُ مِنْهُ عَلَى نَحْوِ مَا سَاقَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ. أَيْ: ثبَّتْنَاكَ عَلَى الحَقَّ، لِعِصْمَتِنَا إِيَّاكَ، ولَوْ وَكَلْنَاكَ وَنَفْسَكَ، وَرَفَعْنَا عَنْكَ ظِلَّ العِصْمَةِ لأَلَمَمْتَ بِشَيْءٍ مِمَّا لَا يَجُوزُ الإِلْمامُ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ، وَلَكِنَّنَا أَحَطْنَاكَ بِالحِفْظِ، فَلَا تَبْعُدُ عَنْكَ آثارُهُ، وَلَا تَغْرُبُ عَنْكَ أَنْوَارُهُ. وَقَدْ عُدِّيَ التَّثْبِيتُ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الدَّالِّ عَلَى ذَاتِهِ الشَّريفَةِ. وَالْمُرَادُ تَثْبِيتُ فَهْمِهِ وَرَأْيِهِ، وَهَذَا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِهَا بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْمَقَامِ، مِثْلُ قوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} الآية: 23. فَالْمَعْنَى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَا رَأْيَكَ فَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ لَقَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ.
قوْلُهُ: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} أَيْ: هَمَمْتَ وَقَارَبْتَ أَنْ تَميلَ إِلَى مُرَادِهِمْ. ولَوْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ المَيْلِ لِقُوَّةِ خَدْعِهِمْ، وَشِدَّةِ احْتِيالِهم، وَلَكِنْ أَدْرَكَتْكَ العِصْمَةُ فَمَنَعَتْكَ مِنْ الاقْتِرابِ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الرُّكونِ إِلَيْهِمْ فَضْلًا عَنْ نَفْسِ الرُّكونِ، والرُّكونُ: الْمَيْلُ بِالرُّكْنِ، أَيْ بِالْجَانِبِ مِنَ الْجَسَدِ وَقُدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْمُوَافَقَةِ بِعَلَاقَةِ الْقُرْبِ. وَهَذَا صَريحٌ فِي أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وسَلَامُهُ، مَا هَمَّ بِإِجابَتِهِمْ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَدَليلٌ عَلَى أَنَّ العِصْمَةَ بِتَوْفِيقِ اللهِ ـ تَعَالى، وعِنَايَتِهِ. وَقالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: الفِعْلُ فِي الظَّاهِرِ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَفِي الباطِنِ للمُشْرِكينَ، وَتَقْديرُهُ: لَقَدْ كادُوا يُرْكِنُونَكَ إِلَيْهِمْ، ويَنْسِبُونَ إِلَيْكَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَنَسَبَ الفِعْلَ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: كِدْتَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ اليَوْمَ، يُريدُ: كِدْتَ تَفْعَلُ فِعْلًا يَقْتُلُكَ غَيْرُكَ مِنْ أَجْلِهِ؛ فَهَذَا مِنَ المَجَازِ والاتِّساعِ. وَشَبِيهٌ بِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآيَةَ: 132، وَقَوْلُ القائِلِ: لا أُرَيَنَّكَ فِي هَذَا المَوْضِعِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَمَقَامٌ آخَرُ مِنْ مَقَامِ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِجَاهَ الْمُشْرِكِينَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "لَوْلا" حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ. و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ ومَصْدَرٍ. و "ثَبَّتْناكَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهَ ـ سُبحانَه، في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وَ "نَا" التَعْظِيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَصِلٌ بهِ في محلِّ النصْبِ مفعولٌ بِهِ. وجُمْلَةُ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ مَعَ مَدْخُولِهَا في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلى الابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ؛ وَلَوْلَا تَثْبيتِنا إِيَّاكَ مَوْجُودٌ.
قولُهُ: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} اللَّامُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "لَوْلَا"، و "قد" للتَحْقِيقِ. وَ "كِدْتَ" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تَاءُ الفَاعِلِ، وَتَاءُ الفاعِلِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُها. وَ "تَرْكَنُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، و "إِلَيْهِمْ" إِلى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. وَ "شَيْئًا" منصوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لأَنَّهُ بِمَعْنَى الرُّكونِ. و "قَلِيلًا" صِفَةٌ لِـ "شَيْئًا" منصوبةٌ مثلُهُ، وَجُمْلَةُ "تَرْكَنُ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كَادَ" وَجُمْلَةُ "كادَ" جَوابُ "لَوْلا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وجُمْلَةُ "لَوْلا" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {تَرْكَنُ} بِفَتْحِ الكافِ على أَنَّهُ مُضَارِعُ رَكِنَ بِالكَسْرِ، وقرَأَ قَتَادَةُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وابْنُ أَبي إِسْحَاقٍ "تَرْكُنُ" بِالضَمِّ مُضَارِعَ "رَكَنَ" بالفَتْحِ، وَهَذَا مِنَ التَدَاخِلِ.