وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} أَيْ: بِأَنْواعِ الكَرَامَةِ، فَعَدَّى الفِعْلُ "كَرَّمَ" بالتَّضْعِيفِ، وَهُوَ مِنْ "كَرُمَ" بالضَمِّ، كَ "شَرُفَ"، وَلَيْسَ المُرادُ مِنَ الكَرَمِ فِي المَالِ، وإنَّما المَعْنَى: أنَّهُ ـ سبحانَهُ، فَضَّلَ بَنِي آدَمَ عَلَى سائرِ المَخْلُوقاتِ، مِنْ حُسْنٍ في الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ، واعْتِدالٍ في المِزَاجِ، واسْتِواءٍ في القَامَةِ، وكرَّمَهُ بالعَقْلِ المُفَاضِ علَيْهِ مِنَ العَقْلِ الكُلِّيِّ، الذي هوَ العِلْمُ الإِلَهِيِّ، كمَا كَرَّمَهُ بِالقُدْرَةِ، وَالارادَةِ، وَسَائِرِ الصِّفاتِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى الصِّفاتِ الذاتِيَّةِ الإِلَهِيَّةِ، لِيَكونَ مُؤَهَّلًا لِخِلافَةِ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ، وَنِيَابَتِهِ عَنْهُ فِي أَرْضِهِ، بِتَأْيِيدٍ مِنْهُ ـ تقدَّسَ، وَإِمْدَادٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في المُعْجَمِ الكَبيرِ: (جـ 13، 14 ـ ص: 594) وفي المعجم الأَوْسَطِ: (7192)، وفي المعجمِ الصَّغيرِ: (897)؛ وَأَخرجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ: (1/174، بِرقم: 153)، والخَطِيبُ البَغْداديُّ فِي تَارِيخِهِ: (4/45)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنِ ابْنِ آدَمَ)). قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ؟ قَالَ: ((الْمَلَائِكَةُ مَجْبُورُونَ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ)). وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَقالَ هُوَ الصَّحِيحُ. وأخرجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمان: (1/172، برقم: 149). وأخرج عبدُ الرَّزَّاقِ في تَفْسِيرِهِ: (2/304)، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا، يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيُنَعَّمُونَ، فَلَمْ تُعْطِنَا ذَلِكَ، فَأَعْطِنَا فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ. وَللحديثِ أطرافٌ أُخْرى عنْ غيرِ واحدٍ مِنْ أصحابِ سيِّدِنا رسول اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ. وَأَخْرجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، قَالَ: جَعَلْنَاهُمْ يَأْكُلُونَ بِأَيْدِيهِم، وَسَائِرُ الْخَلْقِ يَأْكُلُونَ بِأَفْواهِهِمْ. يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِشُ الطَّعَامَ بِفَمِهِ، بَلْ بِرَفْعِهِ إِلَى فِيهِ بِيَدِهِ، وَلَا يَكْرَعُ فِي الْمَاءِ فيُدْخلُ بُوزَهُ فِيهِ، بَلْ يَرْفَعُهُ إِلَى فِيهِ بِيَدِهِ، فَإِنَّ رَفْعَ الطَّعَامِ بِمِغْرَفَةٍ، وَالشَّرَابِ بِقَدَحٍ، زِيَادَةٌ التَّكْرِيمِ. وَأَخَرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، والديْلمِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، قَالَ: الْكَرَامَةُ الْأَكْلُ بِالأَصَابِعِ. وَحُكِيَ أَنَّ الإمامَ أَبَا يُوسُفَ، صاحِبَ أَبي حَنيفَةَ النُعمان ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، حضَرَ يومًا مَأْدُبةً للرَّشيدِ فَأَحْضَرَ الخدَمُ مَلاعِقَ، فقالَ أَبُو يُوسُفَ: يَا أَميرَ المُؤْمِنينَ، بَلَغَنَا أَنَّ جَدَّكَ عَبْدَ اللهِ ـ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ في تفسيرِ قولِهِ تَعَالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"،" أَيْ: جَعَلْنا لَهُمْ أَيْديًا يَأْكُلونَ بِهَا. فَأَمَرَ الرَّشيدُ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، بالمَلاعِقِ فرُفعتْ، وأَخَذَ يأكلُ بيدِهِ. وقِيلَ: معنى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، جَعَلْناهمْ مُنْتَصِبِي القامةِ وَغَيْرَهم مُنْحَنِيًا، وَجَعَلْنا لَهُمْ نُطْقًا وَتَمْييزًا، خِلافَ سائرِ الحَيَواناتِ. وهذِهِ كلُّها، إنَّما هِيَ ـ فِي الحَقِيقَةِ، بَعْضُ مَا كَرَّمَ اللهُ بِهِ أَبَانَا آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذُرِّيَّتَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ، قَال: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ سَبْعًا، فَاخْتَارَ الْعُلْيا مِنْهَا، فَأَسْكَنَهَا مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَاخْتَارَ مِنَ الْخَلْقِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتَارَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْعَرَبَ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ مُضَرَ، وَاخْتَارَ مِنْ مُضَرَ قُريْشًا، وَاخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمَ، واخْتَارَني مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فأَنَا مِنْ خِيَارِ الأَخْيَارِ.
فإنَّ قولَهُ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، ((فَاخْتَارَ مِنَ الْخَلْقِ بَنِي آدَمَ)) يُثْبِتُ بما يَقْطَعُ الشَكَّ تكريمَ بني آدمَ وتفضيلَهم على جميعِ ما خلقَ ـ جلَّ جلالُه، أَيْ: جَعْلُهُ كَرِيمًا نَفِيسًا، غَيْرَ ذَلِيلٍ ولا مَبْذُولٍ فِي صُورَتِهِ، أَوْ حَرَكَةِ مَشْيِهِ، أَوْ بَشَرَتِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ مكشوفُ الجِسْمِ لَا يَعْرِفُ لباسًا ولا يَهْتَمُّ بِنَظَافَةَ بِدَنِهِ، وحمايتِهِ مِنْ تقلباتِ الطَّقْسِ، وعواملِ الطبيعةِ غيرِ المناسبةِ لصحتِهِ، كَمَا يَفْعَلُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا يُحْسِنُ تَرْفِيهَ مَضْجَعِهِ، وَلا مَعْرِفَةَ لَهُ بِتَنْويعِ طَعَامِهِ وَشَرابِهِ، وَلا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى طَهْيِهِ وتَحْضِيرهِ، وَلَا اسْتِعْدَادَ لِمَا يَنْفَعُهُ وَيَدْفَعَ عنْهُ مَا يَضُرُّهُ، وَلَا شُعُورَهُ بِمَا فِي ذَاتِهِ، وَعَقْلِهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ، لِيَسْتَزِيدَ مِنْهَا، وَالْقَبَائِحِ فَيَسْتُرُهَا وَيَدْفَعُهَا، بَلْهُ الْخُلُوَّ عَنِ الفكرِ، والعِلْمِ، الْمَعَارِفِ، وَالصَّنَائِعِ، وَهو عاجِزٌ عَنْ أنْ يتطوَّرَ أَوْ يُطَوِّرَ فِي أَسَالِيبِ حَيَاتِهِ، وَبناءِ حَضَارَتِهِ، أَوْ يَقْبَلَ ذلكَ.
قولُهُ: {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وَقَدْ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ بأنْ سَخَّرَنا لَهُمُ الرَّوَاحِلَ وَأَلْهَمَهُمُ اسْتِعْمَالَهَا بِرُكوبِ النَّجائبِ مِنَ الخَيْلِ والبِغَالِ والبَعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكِ، وَفي الْبَحْرِ بِرُكوبِ الجَوَارِي فيهِ مِنْ سُّفُنٍ ومَرَاكِبَ وغيرِ ذَلِكَ وأَمْرِ المَاءِ بِحَمْلِ هذه الأجسامِ الضَّخْمَةِ وما فيها منْ أثقالٍ، وعَدَمِ ابْتِلاعِها، ويدخُلُ في ذَلِكَ حملُ الهواءِ اليومَ لمثل هذه الأثقالِ في الجوِّ، والذي أَشارَ اللهُ تعالى في الآيةِ: 8، مِنْ سُورَةِ النَّحْل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُون}.
وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ الْحُصُولِ اسْتِعَارَةٌ، وهو مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقد شَاعَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ، قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 11، مِنْ سُورةِ الحاقَّة: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ}. وَمَعْنَى حَمْلِ اللهِ النَّاسَ فِي البَرِّ الْبَحْرِ والجَوِّ: إِلْهَامُهُ إِيَّاهُمُ اخْتِرَاعَ هَذِهِ الآلاتِ والأَدَوَاتِ، وتعليمُهُم كيفيَّةِ اسْتِعْمَالِها، وأَمْرُ الماءِ والهَواءِ بِحَمْلِها.
قوْلُهُ: {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} الطَّيِّباتِ: الأَطايِبُ الَّتي يَكْسِبُونَهَا بِأَيْديهم، بِمُقْتَضَى أَقْدارِ اللهِ تَعَالى، وتهيئةِ أَسْبَابِ كَسْبِهِمْ لها، وإِباحَتِها لَهُمْ، وجعلُ نفوسِهم تَسْتَطِيبُها، وتَسْتَلِذُّ بِهَا، وَتَشْتَهيها، وَتَطْلُبُها، وجعلها لهم حلالًا لهم عَلَى وِفْقِ مَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَةُ رُسُلِهِ الذينَ أَرْسَلَهمْ لهم والكُتُبِ التي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَ فِي الطُّعُومِ أَمَارَاتٍ عَلَى النَّفْعِ، وَجَعَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ المَطْعُوماتِ أَكْثَر جِدًّا مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَاناتِ الَّتي لَا تَأْكُلُ إِلَّا أَطْعِمَةً مَحْدودَةً اعْتَادَتْهَا.
قولُهُ: {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} فقد جَعَلَهُ خَلِيفَةً لهُ في مُلْكِهِ، وسَخَّرَ لخدمتِهِ الوُجودَ بِأَسْرِهِ، فالأَرْضُ تُقِلُّهُ، والسَّماءُ تُظِلُّهُ، قالَ تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} الآيتانِ: (31 و 32) مِنْ سورةِ الأَنْبياءِ. فالجِهَاتُ تَكْتَنِفُهُ، والحَيَواناتُ تَخْدُمُهُ، والمَلائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ، قالَ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الآية: 7، منْ سورةِ غافر. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ الخَلْقُ. قال تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} الآية: 13، مِنْ سورةِ الجاثية. ومِنْها: أَنْ جَعَلَ ذَاتَهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الضِّدَّيْنِ: النُّورِ وَالظُلْمَةِ، الكَثَافَةِ واللَّطَافَةِ، الرُّوحانِيَّةِ والبَشَرِيَّةِ، الحِسِّ والمَعْنَى، القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، العَبُودِيَّةِ وأَسْرارِ الرُّبوبِيَّةِ، إِلَى آخِرَ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِحَمْلِ الأَمَانَةِ. ومِنْها أَيْضًا: أَنَّهُ جَعَلَهُ قَلْبَ الوُجُودِ، هُوَ المَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا العالَمِ، وهوَ المَقْصُودُ الأَعْظَمُ مِنْ إِيجادِ هَذَا الكَوْنِ لأَنَّهُ عَلَى صُورَتَهُ، فهوَ المُنَعَّمُ دُونَ غَيْرِهِ، إِنْ أَطَاعَ اللهَ.
وجِمَاعُ هَذَا التَفْضِيلِ تَمْكِينُ الْإِنْسَانِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بما مَنَحَهُ مِنْ عَقْلٍ ورَأْيٍ وَحِيلَةٍ، الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ صْلاحُ جميعِ شُؤُونِ حياتِهِ، وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ عَنْهُ، وَبِهِ يكتسِبُ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَكَفَى بِذَلِكَ تَفْضِيلًا عَلَى بَقِيَّةِ خلقِ اللهِ تَعَالَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَالتَّكْرِيمِ والتَّفْضِيلِ أَنَّ التَّكْرِيمُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَكْرِيمِهِ فِي ذَاتِهِ، وَأَمَّا التَّفْضِيلُ فإنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَشْرِيفِهِ ورفعِهِ فَوْقَ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ فَضَّلَهُ، وهَذَا هُوَ التَّفْضِيلُ الْمُرَادُ.
وَأَمَّا نِسْبَةُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ المَوْجُوداتِ الْخَفِيَّةِ عَنَّا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةِ هُنَا وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَدِلَّةٍ تَوْقِيفِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ الشَّرِيعَةِ الإلهيَّةِ.
وَبِالجُمْلَةِ فإِنَّ قولَهَ: "قَدْ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا" يَعْنِي أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، قَدِ اسْتَثْنَى القَليلَ مِنْ خلقِهِ منْ هَذَا التَفْضيلِ، والمرادُ بهذا القَليلِ هُمُ المُقَرَّبونَ مِنَ المَلائكَةِ، المُهَيَّمونَ المُسْتَغْرِقُونَ بِمُطالَعَةِ جَمَالِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وجَلالِهِ، وإِنْ كانَ الهائمُونَ الوالِهُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ في وَلاءِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ، المُكاشَفُونَ بِسِرِّ خِلافِتِهِ والنِيَابَةِ عنْهُ في أَرضِهِ، التي أَخْبَرَ بِهَا الحَقُّ الوَاصِلينَ إلى مَرْتَبَةِ الفَنَاءِ الذاتي بالمَوْتَ الإِرادِيِّ أَفْضَلَ مِنْهُمْ أَيْضًا، وأَرْفَعَ رُتْبَةً ومَكانَةً، وإِنَّمَا كُرِّموا وَفُضِّلوا بِمَا فُضِّلوا بِهِ، لِحِكَمٍ ومَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا ذَاتُهُ العليَّةُ، وَهِيَ أَنَّهُ أَرادَ أَنْ يُطالِعَ ذَاتَهُ المُتَّصِفَةَ بِعُمُومِ أَوْصَافِ الكَمَالِ، وَنُعُوتِ الجَلالِ والجَمَالِ، فِي مَظْهَرٍ تَامٍّ كامِلٍ لائقٍ لِخِلافَتِهِ، فأَظْهَرَهم، وكَرَّمَهم لِأَجْلِ هَذِهِ الحِكْمَةِ العَزيزَةِ، والمَصْلَحَةِ الشَريفَةِ، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ هَذِهِ المَرْتَبَةَ العَلِيَّةَ والدَّرَجَةَ السَنِيَّةَ بِسُلوكِهِ الذي قَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وعَلَّمَهُ إيَّاهُ بِإِرْسالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الكُتُبِ، فهُوَ نازِلٌ عَنْ دَرَجَةِ الاعْتِبارِ، ساقِطٌ عَنْ رُتْبَةِ ذَوِي الأَلْبابِ وَالأَبْصارِ، بَلْ هو مِنَ الضَّالينَ المُبْعَدينَ عَنْ مِنْهَجِ الهدايةِ والرَّشادِ، غيرُ مُدْركٍ ما جُبِل مِنْ أَجْلِهِ، بَلْ هو أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الأَنْعامِ، وأَسَوَأُ حَالًا ومَآلًا مِنْهَا، قَالَ تَعَالى في الآيةِ: 179، مِنْ سُورةِ الأَعْرَاف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الفُرْقَانَ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} الآيةَ: 44، وقالَ: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} الآيةَ: 40، مِنْ سُورَةِ النُّورِ. والآيَةُ اعْتِرَاضٌ جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ امْتِنَانِهِ ـ تَعَالى، عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَاعْتُرِضَ بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَبْنَاءِ آدَمَ، فَأَشْبَهَ التَّذْيِيلَ، لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِهِ مَا يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَهُ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ خَمْسَ مِنَنٍ: التَّكْرِيمَ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَرِّ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَحْرِ، وَالرِّزْقَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالتَّفْضِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَاللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. وَ "قَدْ" للتَحْقِيقٍ. وَ "كَرَّمْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سبحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. وَ "بَنِي" مفعولٌ بهِ منصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الياءُ: لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخمسَةِ، وهو مُضافٌ. وَ "آدَمَ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وعلامةُ جرِّهِ الفتحةُ نيابةً عنِ الكَسْرةِ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصرفِ بالعَلَميَّةِ والعُجْمةِ. وجُمْلَةُ "كرَّمْنا" الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ أَيْضًا.
قوْلُهُ: {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "حَمَلْنا" مِثْلُ "كرَّمْنا" معطوفٌ عليهِ ولهُ نفسُ إِعْرابِهِ، وَ "هُمْ" ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَمَلْنَا"، و "الْبَرِّ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "وَالْبَحْرِ" الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "الْبَحْرِ" اسْمٌ مَعْطوفٌ عَلَى "الْبَرِّ" مجرورٌ مثلُهُ. والجملةُ معطوفةٌ على جملَةِ "كرَّمْنا" الفِعْلِيَّةُ على كونِها جَوابَ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "رزقناهم" مِثْلُ "حَمَلْناهم" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ ولَهُ نَفْسُ إِعْرابِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ "حَمَلْناهم" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَزَقْنا" عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا ثانِيًا لَهُ لأَنَّ "رَزَقْنا" هنا بِمَعْنَى "أَعْطَيْنَا"، وَ "الطَّيِّباتِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ.
قولُهُ: {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ، وَ "فَضَّلْناهُمْ" مِثْلُ "حَمَلْناهم" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ ولَهُ نَفْسُ إِعْرابِهِ، و "عَلى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَضَّلْنا"، و " كَثِيرٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مِمَّنْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةْ لِـ "كَثِيرٍ"، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. و "خَلَقْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سبحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإعْرَابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: خَلَقْنَاهُمْ و "تَفْضِيلًا" مَنصوبٌ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِـ "فَضَّلْنَا".