رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} عَوْدٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَدِلَّةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصْرِيفِ فِي الْعَالَمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ وَمُحْكَمِ التَّدْبِيرِ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَسِيَادَةِ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَعَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ ـ تَعَالَى، فيمَا تَقَدَّمَ منْ آياتٍ، أَوْصافَ المُشْرِكِينَ، ومَا يَعْتَقِدونَهُ في آلِهَتِهم، وأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْليسَ مَعَ أَبِينا آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَمْكِينَ إِبْلِيسَ مِنَ الوَسْوَسَةِ لِذُرِّيَّتِهِ وَتَسْوِيلِهِ لَهُم مَعْصِيَةَ رَبِّهم. ذَكَرَ في هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وأَنَّ النَّفْعَ والضَرَرَ بيدِهِ ـ سبحانَهُ، فهو الخالقُ المُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشاءُ، فَذَكَر إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ بَرًّا وبَحْرًا، وَأَنَّ قدرتَهُ تَعَالى مُتَمَكِّنَةٌ مِمَّا يُريدُ. وذكَرَ مِنْ ذَلِكَ إِزْجاءَهُ السُفُنَ والمَرَاكِبَ في البَحْرِ بما يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. وَالْخِطَابُ موجَّهٌ لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ بعدها: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}.
و "يُزْجِي" يُسَيِّرُ بِبُطْءٍ، الإزْجاءُ أَصْلُهُ السَّوْقُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، والمُرادُ بِهِ إِجْرَاءُ السُفُنِ والمَراكِبِ في البَحْرِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "يُزْجي" قَالَ: يُجْرِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يُزْجي لكم الْفُلْكَ" قَالَ: يُسَيِّرُها فِي الْبَحْر. وَالْبَحْرُ: هوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، فَيَشْمَلُ الْأَنْهَارَ الكُبْرَى كَ "دِجْلَةَ" و "الْفُرَاتِ، و "النِّيلِ". وفِيهِ دَليلٌ عَلَى القَسْرِ، وهوَ أَوْفَقُ بِالمَقَامِ، وأَعْظَمُ فِي الإنْعَامِ، لأَنَّه ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، هو القَادِرُ، الحَكيمُ، الذي يُجْرِي السُّفُنَ فِي البَحْرِ بالرِّيحِ اللَّيِّنَةِ، وبِالمَجادِيفِ، وغَيرِها، حَسْبَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لِنَفْعِ عِبَادِهِ.
قوْلُهُ: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: لِتَطْلُبُوا، وفضلُ اللهِ: رزْقُهُ، كما قالَ تعالى منْ سُورةِ البَقَرَةِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم} الآيةَ: 198، أَيْ لِتَلَتَمسُوا مَا قَسَمَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ تَفَضُّلًا مِنْهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، أَوْ لِتُحَصِّلوا الرِّبْحَ الذي هُوَ مُتَفَضِّلٌ بِهِ ـ جَلَّ شَأْنُهُ العَظيمُ، منْ صَيْدِكُمْ وَتِجَارَتِكُم. وَ "مِنْ" هُنَا تَبْعِيضِيَّةٌ. وَهَذَا تَصْريحٌ بِالنَّفْعِ وتَذْكيرٌ للنَّاسِ بِبَعْضِ النِّعَمِ التي هِيَ دَلائِلُ التَفَرُّدِ بِتَصْريفِ شُؤونِ الكَوْنِ ورِعَايَةِ مَصَالِحِ العِبَادِ. وَهَوَ امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، ومُنَاسِبٌ لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ عَرَبُ الْيَمَنِ وَعَرَبُ الْعِرَاقِ وَالنَّاسُ غَيْرُهُمْ. وَهَذا هوَ المُرَادُ الأَصْلِيُّ مِنَ البِعْثَةِ، أَنْ يعرفَ الناسُ مَوْلاهُمْ وَصَاحِبَ الفَضْلِ عَلَيْهِم، وَمَنْ بِيَدِهِ نَفْعُهم وضَرُّرهم، وَفيهِ تَمْهيدٌ لِذِكْرِ تَوْحيدِهم لِمَوْلاهم، والالْتِجَاءِ إِلَيْهِ ودُعاءَهُ عِنْدَ حلولِ الضُرِّ بهم، وكشفِ الكَرْبِ عَنْهم.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} تَذْييلٌ فِيهِ تَعْلِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الإزْجَاءِ وابْتِغَاءِ للفَضْلِ، ذاكَ لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أَزَلًا وأَبَدًا، حَيْثُ هَيَّأَ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ مَا يَعْسُرُ مِنْ مَبَادِيهِ، وَصِيغَةُ الرَّحيمِ دَليلٌ عَلَى أَنَّ المُرادَ بِالرَّحْمَةِ هُنَا هوَ الرَّحْمَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، والنِّعْمَةُ العاجِلَةُ جَلِيلُها وبَسِيْطُها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإِمَامِ الْأَوْزَاعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} رَبُّكُمُ: مرفوعٌ بالابْتِداءِ، مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "الذي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ خَبَرُ المُبتدَأِ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ كِفَايَتِهِ، وَبَيَانِ قُدْرَتِهِ عَلَى عِصْمَةِ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِ. ولَيْسَ لها محلٌّ مِنَ الإعْرابِ. و "يُزْجِي" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ لثِقَلِها عَلَى الياءِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ. و "لَكُمُ" اللامُ حرفُ جَرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُزْجي"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "الْفُلْكَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنَ الفُلْكِ، و " الْبَحْرِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجملةُ صِلَةُ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} اللَّامُ: حَرْفٌ للجَرٍّ والتَعْلِيلِ. و "تَبْتَغُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ جَوَازًا بَعْدَ "لامِ كَيْ"، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَبْتَغُوا"، وَ "فَضْلِهِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ، والتقديرُ: لابْتِغائِكم مِنْ فَضْلِهِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُزْجِي".
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} إِنَّهُ" حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ ـ تَعَالَى. و "بِكُمْ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "رَحِيمًا"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "رَحِيمًا" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها، وَجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إَنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وخبَرِها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، فَهِيَ تَعْلِيلٌ ثانٍ لِجملةِ قَوْلِهِ: "يُزْجِي" فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.