رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} خاطَبَهمُ اللهُ تَعَالَى بـ "رَبُّكُمْ" فَجَاءَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ "الرَّبِّ" مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الذي يَشْمَلُ الرَّسُولَ الكريمَ ـ عَلَيْهِ أَفضَلُ الصَّلاةِ وأَتَمُّ التَسْلِيمِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلْخَيْرِ هو مِنَ شَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَدْبِيرُ شُؤونِ مَرْبُوبِيهِ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، لِيَكُونَ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: "أَعْلَمُ بِكُمْ" وَقْعٌ بَدِيعٌ، بِإِيقَاعِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي الرَّبُّ هُوَ الأَعْلَمُ بِدَخَائِلِ النُّفُوسِ وَقَابِلِيَّتِهَا لِلِاصْطِفَاءِ. والمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكُمْ ـ يا أَيُّهَا النَّاسُ، هُوَ العَلِيمُ بِكُمْ، فَهُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ وَمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا. فَعَاقِبَةُ النَّاسِ مَجْهُولَةٌ بالنسْبةِ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ. إِذًا فَقَدْ أَغْلَقَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، عَلَى العَبْدِ طَريقَ مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ العَوَاقِبَ مُشْتَبِهَةً عَلَى أَرْبَابِهَا، لِيَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرَبِّهِ بِالكُلِّيَّةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ السَّابِقِ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} الآيَتَان: (47 و 48). فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْطَوِي عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ نَجْوَاهُمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْعِنَادِ. وَكانَ ذَلِكَ يَسُوءُ النَّبِيَّ ـ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ، وَيُحْزِنُهُ أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَوَجَّهَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ. وَتَعْقِيبُهُ ـ جَلَّ وعَلا، بِقَوْلِهِ "وَمَا أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا" هُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} كِنَايَةٌ عَنْ مَشِيئَةِ هَدْيِهِ إِيَّاهُمُ، الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، أَوْ مَشِيئَةِ تَرْكِهِمْ وَشَأْنَهُمْ. أَيْ: فَإِنَّهُ ـ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ رَحِمَكُمْ بِتَوفِيقِكُمْ إِلَى الإِنَابَةِ إِلَيْهِ ـ يا أَيُّها النَّاسُ، وإِلَى طَريقِ طَاعَتِهِ ورُضْوَانِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ بِصَرْفِكُمْ عَنِ الإِيمَانِ وَالهُدَى، فَمُتُّمْ عَلَى شِرْكِكُمْ، وَصِرْتُمْ إِلَى النَّارِ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "رَبُّكُم أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ" قَالَ: فَتُؤْمِنُوا، "وَإِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ" فَتَمُوتُوا عَلَى الشِّرْكِ كَمَا أَنْتُمْ.
وَإِعَادَةُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ "إِنْ يَشَأْ" فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِتَأْكِيدِ تَسَلُّطِ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ. وَقد قَدَّمَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الحَديثَ عَنِ الرَّحْمَةِ عَلَى الحَديثِ عنِ العَذَابِ، تَقْوِيةً للأَمَلِ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَفْوِهِ ومَغْفِرَتِهِ، وَجَزيلِ عَطَائِهِ، وعَظِيمِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ.
قولُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} بَيَانٌ منْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، بِأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ هُمَا مِنْ جَعْلِ اللهِ ـ تَعَالَى، وخلْقِهِ، وَأَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرُ مَسْؤُولٍ عَنِ اسْتِمْرَارِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِي الضَّلَالَةِ. وفي ذَلِكَ إِزَالَةٌ لِلْحَرَجِ عَنْهُ ـ عَلَيْهِ الصَلَاةُ وَالسَّلامُ، فِيمَا يَجِدُهُ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، وبقائهم عَلَى ضَلَالِهم. أَيْ: لَمْ نُرْسِلْكَ يَا مُحَمَّدُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِيلًا عَلَيْهِمْ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ مُبَشِرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ، وَحِسَابُ النَّاسِ عَلَى اللهِ تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ. فإنَّ الْوَكِيلَ عَلَى الشَّيْءِ: هُوَ الْمَسْئُولُ بِهِ. وَقُدِّمَ الجارُّ والمجرورُ "عَلَيْهِمْ" عَلَى مُتَعَلِّقِهِ "وكيلًا" لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِرِعَايَةِ الفَوَاصِلِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} رَبُّكُمْ: مَرْفُوعٌ بِالابْتِداءِ، مُضَافٌ، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ عَلامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "أَعْلَمُ" خَبَرُهُ مَرْفُوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "بِكُمْ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعْلَمُ" وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والمِيمُ عَلامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ.
قوْلُهُ: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ، وَ "يَشَأْ" فِعْلُ شَرْطِ "إِنْ" مَجْزُومٌ بِهَا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "رَبُّكم" ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى. وَ "يَرْحَمْكُمْ" جَوَابُ شَرْطِ "إِنْ" مَجْزُومٌ بها، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والمِيمُ عَلامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَالجُمْلَةُ الشَرْطِيَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْصِيلٌ. وَجُمْلَةُ "إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ" مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ" الشَرْطِيَّةِ الأُولَى ولها نَفْسُ إِعْرابِها.
قوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ، و "مَا" نَافِيَةٌ. و "أَرْسَلْناكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَعْظِيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَكِيلًا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والمِيمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "وَكِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلى الحَالِ مِنَ الكافِ فِي "أَرْسَلْناكَ" أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ حَالَةَ كَوْنِكَ مَوْكولًا إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَتُحاوِلُ هِدَايَتَهُمْ.