هَذا وَقَدِ اخْتَلَفَ القَائلُونَ بِاعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ. والتَّحْقِيقُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، لِأَنَّ سُرُورَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ فِي وَلَدِ حُرَّةٍ، وَصُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْحَقُّ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، القَائِلِ بِأَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ. ولَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُ الْقَافَةِ فِي شَبَهِ مَوْلُودٍ بِرَجُلٍ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ آخَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى شِدَّةَ شَبَهِ الْوَلَدِ الَّذِي اخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَهُ هَذَا الشَّبَهُ فِي النَّسَبِ، لِكَوْنِ أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ، فَقَالَ ـ عَلَيْهِ صَلَّ اللهُ وَسَلامُهُ: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). وَلَكِنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْتَبَرَ هَذَا الشَّبَهَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّسَبِ، فَقَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((احْتَجِبِي عَنْهُ)). مَعَ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ.
فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ، والنَّصُّ للبُخَاريِّ في صَحيحِهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنْ خالَتِهِ أُمِّ المُؤْمِنينَ السيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ، أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ))، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ: ((احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عِنْدَ السادةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ.
قولُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} قَال الْجُمْهُورُ، المعنى: يُسْأَلُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَفْعَالِ جَوَارِحِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيَتانِ: (92 و 93)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيَةَ: 93، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقيلَ: إِنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ الَّتِي تُسْأَلُ عَنْ أَفْعَالِ صَاحِبِهَا، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ بِمَا فَعَلَ. وَهَوَ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْخِزْيِ، وهوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الآية: 65، وَقَالَ مِنْ سُورةِ فُصِّلتْ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 20. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هوَ الأَظْهَرُ. وَيُفِيدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"، تَعْلِيلَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، بِالسُّؤَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ: أَنَّ "إِنَّ" الْمَكْسُورَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: انْتَهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، لِأَنَّ اللهَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ لِتَشْكُرَهُ، وَهُوَ مُخْتَبِرُكَ بِذَلِكَ وَسَائِلُكَ عَنْهُ، فَلَا تَسْتَعْمِلْ نِعَمَهُ فِي مَعْصِيَةٍ، يَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 78، منْ سُورةِ النَّحْل: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ.
قولُهُ: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} هُوَ كَمَا تَقولُ: كَانَ مَسْؤُولًا زَيْدٌ. وَلَا ضَيْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِي رُتْبَةِ نَائِبِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ نَائِبِ الْفَاعِلِ مَمْنُوعًا لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ نَائِبِ الْفَاعِلِ الصَّرِيحِ يُصَيِّرُهُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُبْتَدَأً، فَانْدَفَعَ مَانِعُ التَّقْدِيمِ.
وَالْمَعْنَى: كُلُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والفؤادِ كَانَ مَسْؤُولًا عَنْ نَفْسِهِ، وَمَحْقُوقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَ صَاحِبِهِ مِنْ حِسِّهِ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ "كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا" عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِتَقْدِيمِ "كلُّ" الدَّالَّة عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّهَا كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا، لِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ. وَأُقْحِمَ فِعْلُ "كَانَ" لِدَلَالَتِهِ عَلَى رُسُوخِ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّقْصِيرِ، وَتَجَاوُزِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ كَعْبٍ بْنِ زُهيرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
لَذاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ............. وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوبٌ ومَسْؤُولُ
مِنْ خادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ........ مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
أَيْ مُؤَاخَذٌ بِمَا اقْتَرَفْتَ مِنْ هَجْوِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى عَنْ مُؤَاخَذَةِ صَاحِبِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ بِكَذِبِهِ عَلَى حَوَاسِّهِ. وَلَيْسَ هُوَ بِمَجَازٍ عَقْلِيٍّ لِمُنَافَاةِ اعْتِبَارِهِ هُنَا تَأْكِيدَ الْإِسْنَادِ بِـ "إِنَّ" وبـ "كُلُّ"، وَمُلَاحَظَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ "أُولئكَ"، وَ الفعلِ الناقصِ "كَانَ".
وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورةِ النُّورِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 24، أَيْ يُسْأَلُ السَّمْعُ: هَلْ سَمِعْتَ؟ فَيَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ، فَيُؤَاخَذُ صَاحِبُهُ بِأَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ إِيَّاهُ وَهَكَذَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا" يَقُول: سَمْعُهُ وبَصَرُهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولًا" قَالَ: يُقَالُ للأُذُنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ سَمِعْتِ؟ وَيُقَالُ للعَيْنِ: هَلْ رَأَيْتِ؟ وَيُقَال للفُؤادِ: مِثْلُ ذَلِكَ. وَأَخرَجَ الْفرْيَابِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ وعَلَا: "كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا"، قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَة يُقَالُ: أَكَذَاكَ كَانَ؟، أَمْ لَا؟.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "أُولَئِكَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِشَارَةِ "أُولَئِكَ" لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ الْعَرْجِيِّ:
يَا مَا أُمَيْلَحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ............. مِنْ هَاؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ وَالسَّمُرِ
وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ................. وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ لَا شَاهِدَ فِيهِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ (بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ)، وَاللهِ تَعَالَى أَعْلَمُ.
و "أُولئِكَ" يَعُودُ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعَامِلِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ تَنْزِيلًا لِتِلْكَ الْحَوَاسِّ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِذَلِكَ إِذْ هِيَ طَرِيقُ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ نَفْسُهُ. عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ "أُولَئِكَ" لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ قِيلَ هُوَ اسْتِعْمَالٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى في الآية: 102، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الكريمة: {مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ الشَّاعِرُ جَريرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ................. وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وعَبَّرَ عَنِ السَّمْعِ والبَصَرِ والفُؤادِ بـ "أُولئكَ" لأَنَّها حَوَاسُّ لَهَا إِدْراكٌ، وجَعَلَها في هَذِهِ الآيَةِ مَسْؤُولَةً فَهِيَ حالَةُ مَنْ يَعْقِلُ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْها بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ قالَ سِيبَوَيْهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ، في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} الآية: 4، وإِنَّما قالَ "رأيتُهم" في النُجُومِ لأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهَا بالسُّجُودِ ـ وهوَ فِعْلُ مَنْ يَعْقِلُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ. وَحَكَى أَبُو إِسْحاقَ الزَّجَّاجُ أَنَّ العَرَبَ تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل بـ "أولئك"، وأَنْشَدَ هوَ وَالطَبَرِيُّ بَيْتَ جريرٍ المتقدِّمِ.
وَفِيه تَجْرِيد الْإِسْنَاد "مَسْؤُولًا" إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سُؤَالُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ مِنْ نُكَتِ بَلاغَةِ الْقُرْآنِ الكريمِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الواوُ: للعَطْفِ، و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَقْفُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" الناهِيَةِ، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ، وهوَ الواوُ لأَنَّهُ مِنْ (قَفَا يَقْفُو)، كَ (عَدَا يَعْدُو) و (سَمَا يَسْمُو)، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى المُخَاطَبِ. و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ، أَوْ نَكرةٌ مَوْصوفَةٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الآيَةِ: 29، السَّابِقَةِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً}. و "لَيْسَ" فِعْلٌ نَاقِصٌ. و "لَكَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ" المقدَّرِ المُقَدَّمِ عَلى اسْمِها، وكافُ الخِطابِ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّق بِهِ لامُ "لَكَ" وَلَا تَتَعَلَّقُ بِـ "عِلْمٍ" إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الجَارِّ، لأَنَّه مَصْدَرٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وَ "عِلْمٌ" اسْمُ لَيْسَ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ بها، وجُمْلَةُ "لَيْسَ" صِلَةُ "ما" الموصولةِ فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، أَوْ هِي صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إِنْ أُعْرِبَتْ "مَا" نَكِرَةً مَوْصُوفَةً.
قولُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وَ "السَّمْعَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "والْبَصَرَ وَالْفُؤادَ" مَعْطُوفانِ عَلَيْهِ. و "كُلُّ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، و "أُولئِكَ" أُولاءِ: اسْمُ إِشارةٍ مَبْنيُّ عَلَى الكَسْرِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والكافُ للخطابِ. و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. واسْمُ "كانَ" ضَميرٌ مُستترٌ فيها جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "كلُّ" باعْتِبارِ لَفْظِها، وَكَذَا الضَمِيرُ في "عَنْهُ". أَوْ أَنَّ اسْمَها ضَميرٌ يَعُودُ عَلَى القافي، والضميرُ في "عنه" يَعُودُ عَلى "كلُّ" وهوَ مِنَ الالْتِفَاتِ؛ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَقِيلَ: كُنْتَ عَنْهُ مَسْؤُولًا. وَقَالَ الزَمَخْشَرِيُّ: و "عنهُ" في مَوْضِعِ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ كانَ مَسْؤُولًا عَنْهُ، فـ "مَسْؤولًا" مُسْنَدٌ إِلَى الجَارِّ والمَجْرُورِ، كَ "المَغْضُوبِ" منْ قولِهِ تَعَالى في سورةِ الفاتحةِ: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} الآية: 7. وفِي تَسْمِيَةِ الزمَخْشَريِّ مَفْعُولَ مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ فاعِلًا خِلافُ الاصْطِلاحِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشيخُ أبو حيَّانٍ الأندلُسِيُّ قوَلَهُ: بِأَنَّ القائمَ مقَامَ الفاعِلِ حُكْمُهُ حُكْمُهُ، فَلَا يَتَقَدَّمَ عَلى رافِعِهِ، كَأَصْلِهِ. وَلَيْسَ لِقائلٍ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، فإِنَّهمْ يُجِيزونَ تَقْديمَ الفاعِلِ؛ لأَنَّ النَحَّاسَ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقديمِ القائمِ مقامَ الفاعِلِ إِذا كانَ جارًّا ومَجْرُورًا، فَلَيْسَ هوَ نَظيرَ قولِهِ تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم}، فَحِينَئِذٍ يَكونُ القائمُ مَقامَ الفاعلِ الضَميرَ المُسْتَكِنَّ العائدَ عَلَى "كلٌّ" أَوْ عَلَى القافِي. وَ "عَنْهُ" عنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. و "مَسْؤُولًا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وجُمْلَةُ "كانَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلِها فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَلاَ تَقْفُ} وَعَلَى هَذِهِ القِراءَةِ فَإِنَّ المَعْنَى: لا تَتَّبِعْ، وهو مِنْ قَفَاهُ يَقْفُوهُ، إِذَا تَتَبَّعَ أَثَرَهُ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَلَا تَقْفُو" بِإِثْباتِ الواوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِثْباتَ حَرْفِ العَلَّةِ جَزْمًا لُغَةُ قَوْمٍ، وضَرُورةٌ عِنْدَ غيرِهِمْ كَقَوْلِ الشاعِرِ فيما نَسَبَهُ بعضُهم لأبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ التَمِيمِيِّ المَازِنِيِّ البَصْرِيِّ أَحَدِ القُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وَاسْمُهُ (زَبَّانُ)، وقد رُوِيَ أَنَّ الفَرَزْدَقَ جاءَ إليهِ مُعْتَذِرًا مِنْ هَجْوٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو:
هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ........ مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَع
وقَرَأَ مُعَاذٌ القارِئُ: "وَلَا تَقُفْ" بِزِنَةِ "تَقُلْ"، وهوَ أيضًا مِنْ قافَ يَقُوفُ، أَيْ: تَتَبَّعَ، فهوَ مَقْلوبٌ مِنْ (قَفَا يَقْفُو)، وقيلَ: بِأَنَّهُ لُغَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَيِّدَةٌ ك "جَبَذَ" و "جَذَبَ"، لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمالَيْنِ، ومِثْلُهُ قولُهُمْ: (قَعَا) الفَحْلُ النَّاقَةَ وَ (قَاعَها).
قرَأَ العامةُ: {وَالفُؤَادَ} بضمِّ الفاءِ، وقَرَأَ الجَرَّاحُ العَقِيلِيُّ "والفَوَادَ" بِفَتْحِها وَوَاوٍ خَالِصَةٍ. وتَوْجِيهُها: أَنَّهُ أَبْدَلَ الهَمْزَةَ وَاوًا بَعْدَ الضَمَّةِ فِي القِراءَةِ المَشْهُورَةِ، ثُمَّ فَتَحَ فاءَ الكَلِمَةِ بَعْدَ البَدَلِ لأَنَّها لُغَةٌ فِي الفُؤَادِ، يُقالُ: "فُؤَادٌ" و "فَآدٌ"، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ القِرَاءَةَ أَبو حَاتِمٍ الرَّازيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.