لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ} خِطابٌ للنبيِّ الكريمِ ـ صَلواتُ ربِّي وسلامُهُ عَلَيْهِ، والمُرَادُ بالخِطابِ أُمَّتُهُ، أَوْ هُوَ عامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ يَصْلُحُ للخِطابِ، نَحْوَ قولِهِ منْ سورةِ الطلاقِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية: 1. أَنْ لاَ تَجْعَلْ للهِ أَيُّهَا الإِنْسَانُ شَرِيكًا في مُلكِهِ، وأَلَّا تَعْبُدُ مَعَهُ سِوَاهُ. فَإِنَّ خُلَاصَةَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ تَرْكُ الشِّرْكِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْدَأُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ أَوَّلُ خُطُوَاتِ السَّعْيِ للْآخِرَةِ لِمَنْ كانَ يُرِيدِها، لِأَنَّ الشِّرْكَ قَاعِدَةُ اخْتِلَالِ التَّفْكِيرِ وَتَضْلِيلِ الْعُقُولِ، كما قَالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ هودٍ ـ عَلَيهِ السَّلامُ، فِي ذِكْرِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ: {وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} الآيةَ: 101. والتتبيبُ: هو الخُسْرانُ والهلاكُ.
قولُهُ: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} أَيْ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ فأَشْركتَ باللهِ ـ تَعَالى، وعَبَدْتَ معهُ غيرَهُ، قَعَدْتَ مَذْمُومًا عَلَى إِشْرَاكِكَ بِرَبِّكَ، مَخْذُولًا لاَ ناصرَ لَكَ، وَوكِلَكَ اللهُ إِلَى مَنْ عَبَدْتَهُ، وَهَذَا الشريكُ الذي عَبَدْتَهَ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا، فكيفَ يَمْلُكُهُ لَكَ؟!.
و "فَتَقْعُدَ" مِنْ القُعودُ بَمَعْنَى الصَيْرُورَةِ، وهوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَحَذَ الشَفْرَةَ حَتَّى قَعَدتْ، كَأَنَّها كانَتْ خَرِبَة، أَوْ عاجِزَةً، مِنْ قَعَدَ عَنْ الشَّيْءِ إِذا عَجَزَ عَنْهُ، فهوَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْمُكْثِ وَالدَّوَامِ عَلَى الشَّيْءِ. وَقَدْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَجْرِيدُ مَعْنَى النَّهْيِ إِلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ، دَامُوا فِي الذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ. وَالْمَذْمُومُ: هو الْمَذْكُورُ بِالسُّوءِ وَالْعَيْبِ. وَالْمَخْذُولُ: هو الَّذِي أَسْلَمَهُ نَاصِرُهُ، فَلَا نَاصِرَ لَهُ مِنْ دونِ اللهِ وَلَا عَاصِمَ. يُقالُ: خَذَلَهُ يَخذُلُهُ خَذْلًا خِذْلانًا.
فَأَمَّا ذَمُّهُ فَإِنَّما يكونُ مِنَ اللهِ عَلَى لِسَانِ الشَّرَائِعِ ومِنْ ذَوِي الْعُقُولِ الأَلْبابِ، إِذْ أَعْظَمُ السُخْرِيَةً أَنْ يَتَّخِذَ الْمَرْءُ حَجَرًا، أَوْ عُودًا، رَبًّا لَهُ وَيَعْبُدَهُ مِنْ دونِ اللهِ ويَدْعوهُ لِنَفْسِهِ، ويسْأَلَهُ حاجَتَهُ، كَمَا قَالَ سَيِّدُنا إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} الآية: 95 مِنْ سُورةِ الصافات. وَأَخْرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "مَذْمُومًا" يَقُولُ: مَلُومًا.
وَأَمَّا خِذْلَانُهُ فَلِأَنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ وَلِيًّا لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، قالَ تعالى مِنْ سورةِ فاطر: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ} الآية: 14، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} الآية: 42، منْ سورةِ مَرْيَم. وَإنمَّا يكونُ خِذْلَانُهُ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، لِأَنَّهُ ـ سُبحانَهُ، لَا يَتَوَلَّى مَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ، قَالَ جلَّ جلالُهُ: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ} الآية: 11، مِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وَقَالَ من سورةِ غافر: {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} الآية: 50.
وَأَخْرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَتَقْعُدُ مَذْمُومًا" يَقُولُ: فِي نِقْمَةِ اللهِ "مَخْذُولًا" فِي عَذَابِ اللهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ} لا: ناهيةٌ جازمةٌ، و "تَجْعَلْ" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بها، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ، أَوْ عَلَى كُلِّ منْ هو أهلٌ للخَطَابِ. و "مَعَ" منصوبٌ على الظرْفيَّةِ الاعتباريَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ مَفْعُولٍ ثَانٍ لِـ "تَجْعَلْ" وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "إِلهًا" مَفْعُولٌ بهِ أَوَّلُ لـ "تَجْعَلْ" مَنْصُوبٌ بِهِ. و "آخَرَ" صِفَةٌ لِـ "إلهًا" منصوبةٌ مثلُهُ، والتَقْديرُ: لا تَجْعَلْ إِلَهًا آخَرَ كائِنًا مَعَ اللهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ سَبَبِيَّةٌ، و "تَقْعُدَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ الفَاءِ السَبَبِيَّةِ الوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى كلِّ مَنْ هو أهلٌ للخطابِ، و "مَذْمُومًا مَخذولًا" نَصْبٌ عَلَى الحالِ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ "تَقْعُدَ" بمعنى "تَمْكُثَ" أَي تَبْقَى ـ كَمَا تقدَّمَ في التَفْسِيرِ، فَيَكونُ (أَنْتَ) اسْمَهُ، وَ "مَذْمُومًا" خَبَرًا أوَّلَ لهُ، و" مَخذولًا" خبرَهُ الثاني، وهو ما ذَهَبَ إِلَيْهِ الفَرَّاءُ وَالزَمَخْشَرِيُّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ، "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وَهي معَ صِلَتِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا، مِنْ غَيْرِ سَابِكٍ لإِصْلاحِ المَعْنَى، والتَقْديرُ: لا يَكُنْ جَعْلُكَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، فَقُعُودُكَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا.