قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بَعْدَ أَنْ لَقَّنَ اللهُ ـ تَعَالى، نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى الضَّلَالَةِ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَلْقِينِهِ مَا لَقَّنَهُ للمُرْسَلِينَ مِنْ قِبْلِهِ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى رَبِّهِمْ وَتَحْكِيمِهِ فِي أَعْدائِهِ وأَعْدَائِهِم، وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِنَفْسِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ، كما في الآيةِ أَيْضًا تَعَهُّدٌ للنَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، بِالْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. والشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، أَيْ الْمُخْبِرُ بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ. وَالمُرادُ بِهِ هُنَا الشَّاهِدُ لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} الخبيرُ هُنَا: الْعَلِيمُ بِالْحَقَائِقِ والنَّوَايَا، والبَصِيرُ: الْعَلِيمُ بِالذَّوَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنِ اتِّبَاعِ البصيرِ بِالخَبِيرِ إِحَاطَةُ عِلْمِهِ تَعَالَى بأَحوالِ عبادِهِ ظَوَاهِرِها وَبَوَاطِنِهَا، فَيُجَازِيهِمْ عَلى ذَلِكَ. وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ " كَفَى بِاللهِ" تَعَالَى. وفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والْمُؤمنينَ، وفيهِ أَيْضًا تَهْدِيدٌ للكَفَرةِ والمُشرِكِينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
يُرْوَى في أَسْبابِ نزولِ هذهِ الآيةِ الكريمةِ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا حِينَ سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالى في الآيةِ: 93، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الكريمةِ: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، قالوا لهُ: فَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَنَزَلَ: "قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا".
قوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ الظاهِرِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "كَفَى" فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ. و "باللهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ زائدٍ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ محلًّا مجرورٌ بالباءِ لفظًا. و "شَهِيدًا" منصوبٌ على التَمْيِيزِ لِفَاعِلِ "كَفَى". وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ "قُلْ". و "بَيْنِي" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الاعتباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَهِيدًا" وهوَ مُضَافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "وَبَيْنَكُمْ" الواوُ: للعطفِ، و "بَيْنَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ كَسَابِقِهِ، مَعْطوفٌ عَلَيْهِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجَمعِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} إِنَّهُ: حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى اسْمِ الجَلالةِ. و "بِعِبادِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "كان". و "خَبِيرًا بَصِيرًا" خَبَرَانِ لِـ "كانَ" منصوبانِ بها، وُجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ" عَلَى كَوْنِهَا تَعْلِيلِيَّةً.