انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} التَّعْبِيرُ بِـ "انْظُرْ" إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنَ الْوُضُوحِ أَنْ يَكُونَ مَنْظُورًا. وَ "كَيْفَ" الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ تَمْثِيلِهم للنَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وتَشْبيهِهِ بِالْمَسْحُورِ وَنَحْوِهِ. عَجَّبَهُ مِنْ صُنْعِهِمْ، كَيْفَ يَقُولُونَ تَارَةً سَاحِرٌ، وَتَارَةً مَجْنُونٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ. وَ "ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ" أَيْ: بَيَّنُوا لَكَ الأَشْبَاهَ؛ فَمَثَّلُوكَ بِالشَّاعِرِ مرَّةً، والسَّاحِرِ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ بِالكاهِنِ والمَجْنُونِ والمُعَلَّمِ. وَأَصْلُ الضَرْبِ وَضْعُ الشَّيْءِ وَتَثْبِيتُهُ، فيَقولُنَ: ضَرَبَ خَيْمَةً، أَيْ: أَقامَها وثبَّتَ عمادَها وأَوْتَادَهَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى صَوْغِ الشَّيْءِ عَلَى حَجْمٍ مَخْصُوصٍ، فيُقَالُ: ضَرَبَ الدَنَانِيرَ، أَيْ صكَّها، وَالضَرْبُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْإِبْرَازِ، وَالْبَيَانِ، تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمُبْرَزِ الْمُبَيَّنِ بِالشَّيْءِ الْمُثْبَتِ. و "لَكَ" اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَالْأَجَلِ، أَيْ ضَرَبُوا الْأَمْثَالَ لِأَجْلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ تَمْثِيلِكَ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ المَسْحُورَ فِي الآيَةِ الأُولى بِمَعْنَى المَخْدوعِ؛ لأَنَّهمْ لَوْ أَرادُوا رَجُلًا ذَا رِئَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ، وَلَكِنَّهمْ لَمَّا أَرادُوا رَجُلًا مَخْدُوعًا ـ كَأَنَّهُ بِالخَديعَةِ سُحِرَ، كانَ مَثَلًا ضَرَبوهُ وتَشْبيهًا شَبَّهُوهُ. "الغَريبِ" لابْنِ قُتَيْبَةَ: (1/257).
قولُهُ: {فَضَلُّوا} الفاءُ: للتفريعِ، فقَدْ فُرِّعَ ضَلَالُهُمْ عَلَى ضَرْبِ أَمْثَالِهِمْ، لِأَنَّ مَا ضَرَبُوهُ مِنَ الْأَمْثَالِ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ وَإِيغالٌ فِي الْكُفْرِ. فَالْمُرَادُ تَفْرِيعُ ضَلَالِهِمُ الْخَاصِّ بِبُطْلَانِ تِلْكَ الْأَمْثَالِ، أَيْ فَظَهَرَ ضَلَالُهُمْ فِي ذَلِكَ، فهوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ القمَر: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا} الْآيةَ: 9. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ هُنَا أَصْلُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْحَيْرَةُ فِي الطَّرِيقِ وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ، أَيْ ضَرَبُوا لَكَ أَشْبَاهًا كَثِيرَةً لِأَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا فِيمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ شَأْنِكِ الْعَظِيمِ. فُضَّلُواْ عَنِ الحَقِّ وجانبوا الصوابَ فِي جَميعِ ذَلِكَ.
قولُهُ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أَيْ: لاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا، إِلَى إِفْسادِ أَمْرِكَ، وإِطْفَاءِ نُورِكَ، والطَعْنِ في صدقِكَ، فَيَتَهافَتُونَ، ويَخْبِطُونَ في حَيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ لا يَعْرِفُونَ سَبِيلًا إِلى الرَّشَادِ، ولا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فِي صَدِّ النَّاسِ عَنْكَ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: يُريدُ سَبيلَ الهُدَى. وَقَالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "سبيلًا" مَخْرَجًا، تَفْسيرُ مُجاهِدٍ: (1/363)، وَتفسيرُ الطَبَرِيِّ: (15/97). وهوَ تَفْرِيعٌ عَلَى ضَلالِهم، أَيْ: فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا لِتَوَغُّلِهِمْ فِي الْحَيْرَةِ فِي ضَرْبِ تِلْكَ الْأَمْثَالِ. وَالسَّبِيلُ، أَيْ: الطَّرِيقُ، وَاسْتِطَاعَتُهُ، يَعْنِي: اسْتِطَاعَةُ الاهتداءِ إِلَيْهِ، والظَّفَرِ بِهِ، والسَّيْرِ عَلَيْهِ. وقدْ نَزَلَتْ والتي قبلَها في الوَليدِ بْنِ المُغيرَةِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ كُفَّارِ قريشٍ، كما تقدَّمَ بيانُهُ هناكَ، حَكاهُ الطَبَرِيُّ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} انْظُرْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. وَ "كَيْفَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ تَعَجُّبِيٍّ، مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ، والعامِلُ فِيهِ "ضَرَبُوا"، وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِـ "انْظُرْ" للعَمَلِ فِي لَفْظِ مَا بَعْدَهَا. و "ضَرَبُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو واوُ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتفريقِ. و "لَكَ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "ضَرَبُوا"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَ "الْأَمْثالَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولِ "انْظُرْ".
قولُهُ: {فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "ضَلُّوا" فعل، وفاعل مثلُ "ضَرَبُوا" معطوف عليهِ. و "فَلا" الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "لا" نافيَةٌ. و "يَسْتَطِيعُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازمِ، وعلامَةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وَ "سَبِيلًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، بِتَضْمِينِ "يَسْتَطِيعُونَ" مَعْنَى: "يعرفون"، أَوْ "يَجِدونَ". والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "ضَلُّوا" لأَنَّ العاطِفَ مُرَتِّبٌ.