اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
(14)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {اقْرَأْ كِتَابَكَ} أَيْ: وَيُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منْ بني آدَمَ، يَوْمَ القِيَامَةِ: "اقْرَأْ كِتَابَكَ" الذِي يَحْوِي أَعْمَالَكَ كُلَّهَا، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا. وَقِيلَ المُرَادُ بِـ "كِتَابِكَ" نَفْسُكَ المُنْتَقَشَةُ بِآثَارِ أَعْمَالِكَ، فإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَصْدُرُ مِنَ الإنْسانِ خَيْرًا أَوْ شرًّا يَحْدُثُ مِنْهُ في جَوْهَرِ رُوحِهِ أَمْرٌ مَخْصُوصٌ إِلَّا أَنَّهُ يَخْفَى مَا دَامَ الرُّوحُ مُتَعَلِّقًا بِالبَدَنِ مُشْتَغِلًا بِوارِداتِ الحَوَاسِّ وَالقُوَى، فإِذا انْقَطَعَتْ عَلاقَتُهُ عَنِ البَدَنِ قَامَتْ قِيامَتُهُ، لأَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً فِي الجَسَدِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قامَتْ وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ الصُّعُودِ إِلى العالَمِ العُلْوِيِّ، فَيَزُولُ الغِطَاءُ، وَتَنْكَشِفُ الأَحْوالُ، ويَظْهَرُ عَلَى لَوْحِ النَّفْسِ نَقْشُ كُلِّ شَيْءٍ عَمِلَهُ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى الكِتَابَةِ والقِراءَةِ. وَالْأَمْرُ فِي "اقْرَأْ" مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ، وَمُكَنًّى بِهِ عَنِ الْإِعْذَارِ لَهُمْ، وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ حَاصِلَةٌ للقارِئِ. وَالْقِرَاءَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُثْبِتَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ أَوْ فِي فَهْمِ النُّقُوشِ الْمَخْصُوصَةِ إِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ نُقُوشٌ وَهِيَ خَوَارِقُ عَادَاتٍ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ: المعنى هَذَا كِتَابٌ، لِسَانُكَ قَلَمُهُ، وَرِيقُكَ مِدَادُهُ، وَأَعْضَاؤُكَ قِرْطَاسُهُ. وأَنْتَ كُنْتَ الْمُمْلِيَ عَلَى حَفَظَتِكَ، لا زِيدَ فِيهِ، وَلَا نُقِصَ مِنْهُ، وَإِذا أَنْكَرْتَ شَيْئًا مِنْهُ كانَ الشاهِدَ فيهِ مِنْكَ عَلَيْكَ. والجُمْلَةُ هَذِهِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "اقْرَأ كِتَابَكَ" قَالَ: سَيَقْرَأُ يَوْمئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا. وقَالَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ : يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كِتَابَهُ أُمِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ أُمِّيٍّ. تَفْسيرُ الطَبَرِيِّ: (15/53). وقالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيُّ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يُؤْتَى المُؤْمِنُ يَوْمَ القَيامَةِ صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ فِي ظَهْرِهِ، يَغْبِطُهُ النَّاسُ عَلَيْها، وسَيِّئَاتُهُ فِي جَوْفِ صَحِيفَتِهِ وَهُوَ يَقْرَؤُهَا، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهَا قَدْ أَوْبَقَتْهُ، قَالَ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُها لَكَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَيُسَرُّ ويُشْرِقُ لَوْنُهُ وَيَقُولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} الآيةُ: : 19، مِنْ سُورةِ الحاقَّةِ.
قولُهُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} يَكْفِيكَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ المُحَاسِبَ عَلَى نَفْسِكَ، وَقَدْ عَدَلَ مَعَكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبًا عَلَى نَفْسِكَ، وَعَادًّا أَوْ مُحَاسِبًا. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَفْسِكَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ دَاخِلَةٌ عَلَى فَاعِلِ "كَفَى" كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَكَفى بِاللهِ شَهِيدًا} الآيةَ: 79. ويومئذ يُحْكُمِهُ اللهُ في حالِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لَا مَحَالَةَ يَحْكُمُ بِنَفْسِهِ بِاسْتِحْقاقِهِ لِعَذَابِ مَوْلاهُ عِنْدَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ ظهورِ قَبيحِ أَعْمَالِهِ. فَكَمْ مِنْ حَسْرَةٍ يَتَجَرَّعُها، وَكَمْ مِنْ خَيْبَةٍ يَتَلَقَّاها!. ويُقالُ مَنْ حَاسَبَهُ بِكِتَابِهِ فَكِتَابُهُ مُلازِمُهُ فِي حِسَابِهِ، فَيَقُولُ: رَبِّ: لا تُحَاسِبْنِي بِكِتَابِي، ولكنْ حَاسِبْنِي بِمَا قُلْتَ: {إِنَّكَ غافِرُ الذَّنْبِ وَقابِلُ التَوْبِ}. لَا تُعُامِلْنِي بِمُقْتَضَى كِتَابي، فإِنَّ فِيهِ بَوَارِي وَهَلاكِي. وَقَدِ انْتَصَبَ حَسِيبًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْكِفَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ حَسِيبٍ. وَالْحَسِيبُ: بِوَزْنِ "فَعِيلٌ" بِمَعْنَى "فَاعِلٍ" أَيِ الْحَاسِبُ وَالضَّابِطُ، وهو كَقَوْلِهِم: "ضَرِيبُ الْقِدَاحِ" بِمَعْنَى ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٍ بِمَعْنَى صَارِمٍ. وَكَثُرَ وُرُودُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ "كَفَى" بِكَذَا. وَقدْ عُدِّيَ بِـ "عَلَى" لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الشَّهِيدِ. وَصَديقُ النَّفْسِ هُوَ الْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: {وَكُلَّ إِنْسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ} مِنَ الآيةِ التي قَبْلَها، فَلِذَلِكَ جَاءَ "حَسِيبًا" بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: الْكَافِرُ يَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتابٌ فَيَقُولُ: رَبِّ إِنَّكَ قَدْ قَضَيْتَ إِنَّكَ لَسْتَ بِظَلَّامٍ للعَبيدِ فَاجْعَلْنِي أُحاسِبُ نَفسِي. فَيُقَال لَهُ: "اقْرَأ كتابك كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبًا". وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ في الآيةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، بَسَطْتُ لَكَ صَحيفَةً، وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكانِ كَريمانِ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ، حَتَّى إِذا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ، فَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهِ فِي عُنُقِهِ} حَتَّى بَلَغَ "عَلَيْكَ حَسِيبًا".
قولُهُ تَعَالَى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ} اقْرَأْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقدرُهُ (أنتَ) يَعودُ عَلى الإنسانْ. و "كتابَكَ" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى الفتحِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ. والجُملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِقَولٍ مَحذوفٍ والتقديرُ: وَيُقالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ. وَهَذَا القولُ: إِمَّا صِفَةٌ أَوْ حالٌ كَمَا في الجُمْلَةِ قَبْلَهُ. قالَ الفَرَّاءُ فِي (مَعَانِي القُرْآنِ) لَهُ: (2/119): (يُقَالُ) هَاهُنَا مُضْمَرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالىِ مِنْ سُورَةِ غافر: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} الآية: 46، وقولِهِ مِنْ سُورَةِ آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} الآية: 106، ونَسَبَهُ الواحديُّ في تَفْسيرِهِ (البَسيط) للكِسائيِّ أَيْضًا.
قولُهُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} كَفَى: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المُقدَّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِ على الأَلِفِ، وَ "بِنَفْسِكَ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ زائدٌ، وَ "نَفْسِكَ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ الزِّائدِ لَفْظًا مَرْفوعٌ مَحَلًّا على أَنَّهُ فَاعِلُ كفى، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ. وهذا هوَ المَشْهورُ عِنْدَ المُعْرِبين، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذا حُذِفتِ الباءُ الزائِةُ منْهُ ارْتَفَعَ، كَما هو الحالُ في قَوْلِ الشاعِرِ زِيادِ بْنِ زَيْدٍ العَدَوِيِّ:
ويُخْبِرُني عَنْ غائبِ المَرْءِ هَدْيُهُ، ..... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وقولِ سُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الحِسْحَاسِ:
عَمِيرَةُ وَدَّعَ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ........ كَفَى الشَّيْبُ والإِسْلامُ للمَرْءِ ناهِيَا
وعَلَى هَذَا فَقد كان يَنْبَغي أَنْ يُؤَنَّثَ الفعلُ لِتَأْنيثِ فاعِلِهِ، وإِنْ كانَ مَجْرورًا كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ الأَنْبِياءِ: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} الآيَةَ: 6. وَكقولِهِ مِنْ سُورةِ الأَنْعام: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} الآية: 4. وَقَدْ يُقالُ: إِنَّهُ جاءَ عَلى أَحَدِ الجائزَيْنِ فإِنَّ التَأْنيثَ مَجَازيٌّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ الفاعِلُ هوَ ضَمير المُخاطَبِ، وَعَلَى هَذَا فَـ "كَفَى" اسْمُ فِعْلٍ أَمْرٍ، أَيْ: اكْتَفِ، وَهوَ ضَعيفٌ لِقَبُولِ "كَفَى" علاماتِ الأَفْعالِ. ويَجُوزُ أَنْ يكونَ فاعلَ "كَفَى" ضَميرٌ يَعودُ عَلى الاكْتِفاءِ. وهذِهِ الجُملَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ أيضًا بالقوْلِ للقَوْلِ المَحذوفِ. و "الْيَوْمَ" منصوبٌ على الظرْفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَفَى" و "عَلَيْكَ" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "حَسِيبًا" تَمْييزٌ لِفَاعِلِ "كَفى". ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنى الكافي ووُضِع مَوْضِعَ الشَهيدِ، فعُدِّيَ بِـ "عَلى" لأَنَّ الشاهدَ يَكْفي المُدَّعي مَا أَهَمَّهُ. وذَكَرَ "حَسيبًا" لأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشاهدِ والقاضي والأَمينِ، وهَذِهِ الأُمُورُ يَتَوَلاَّها الرِّجالُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَفَى بِنَفْسِكَ رَجُلًا حَسيبًا، ويَجوزُ أَنْ تُتَأَوَّلَ النَّفسُ بمعنى الشَّخْصِ، كَما يُقالُ: ثَلاثةُ أَنْفسِ، ومِنْهُ قولُ الحُطيْئةُ:
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ................... لقد جارَ الزمانُ على عيالي
ويَجوزُ أَنْ يكونَ نَصْبُهً عَلى الحَالِ، وذُكِرَ لِما تَقدَّمَ. وقيلَ: حَسِيبٌ بِمَعنى مُحاسِبٍ، كَخَلِيطٍ بِمَعنى: مُخالِطٍ، وجَلِيسٍ بِمَعنى: مُجالِسٍ.