عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أَي: لَعَلَّ اللهَ يغفرُ لكمْ ويَرْحَمُكُمْ بَعْدَ المَرَّةِ الثَانِيَةِ إِنْ تُبْتُمْ عَنِ المَعَاصِي ورَجَعْتُمْ إلى مَوْلاكُمْ فإِنَّهُ غفورٌ رحيمٌ.
قولُهُ: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} وإِنْ عُدْتُم إلى ارتكابِ الموبقاتِ والمُخَالفاتِ، وارْتكابِ المعاصي، واقْتِرافِ الجرائمِ، فإِنَّنا سوفَ نعودُ إلى الانتقامِ مِنْكُمْ وتَأْديبِكمْ كما فعلْنا في المَرَّتَيْنِ الأُولى والثانيةِ.
لكنَّ بني إِسْرائيلَ عادوا لأَنَّ العنادَ والاسْتكبارَ وعدَمَ الاتعاظِ والاعْتِبَارِ دأْبُهُم ودَيْدَنُهْم، فَقَدْ عَادُوا بِعِدائهِمُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ، مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَكْذِيبِهِ ومحاولةِ قَتْلِهِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بالسُمِّ، ومَرَّةً بإلقاءِ حَجَرٍ ضَخْمٍ عَلَيْهِ مِنَ سطْحٍ عَالٍ، ونَقَضُوا عَهُودَهُمْ إِلَيْهِ بِحُسْنِ الجِوارِ، ومواثيقِهُمْ، وحرَّفوا تَوراتِهِمْ لِطَمْسِ حقيقةِ رِسالَتِهِ، وتَآمَرُوا عليهِ مع المُشْرِكَينَ، وأَلَّبوا عَلَيْهِ الكافرينَ، وتحالفوا معَ أعدائهِ عليْهِ وشَنُّوا عَلَيْهِ الحروبَ. فَعَادَ اللهُ تَعَالَى إلى عُقُوبَتِهِمْ بتقتيلِهم وتَدميرِهِمْ وتَشْتِيتِ شَمْلِهمْ، وأَيَّدَ رَسولَهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وسَلَّطَهُ عَلَيِهِمْ، فَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةِ، وَأَجْلَى بَنِي النَضِيرِ، وفَتَحَ حصنَ خَيْبَرَ، وَضَرَبَ الجِزْيَةَ عَلى الباقِينَ، مِنَ اليهودِ وهذا هوَ المَرْوِيُّ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وَقِيلَ: المُرادُ أَنَّهُمْ عَادُوا إلى المَعَاصِي والجَرائمِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَادَ اللهُ تَعَالَى إلى تَأْديبِهِمْ بِأَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الأَكَاسِرَةَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ مِنَ الأَفَاعِيلِ مَا فَعَلُوا، مِنْ إِذْلالٍ وإِخْضَاعٍ وَضَرْبِ الإِتَاوَاتِ، وقَتْلٍ فظيعٍ لا يُوصَفُ، وذَلِكَ بِأَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الطَوائِفِ اسْمُهُ "جُودَرْدِ"، أو "جِرْدُوس"، فَقِيلَ: وَجَدَ دَمًا يَغْلِي فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: دَمُ قُرْبَانٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنَّا، فَقَالَ: لَمْ تَصْدُقوني، فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ أُلُوفًا فَلَمْ يَهْدَأِ الدَمُ، ثُمَّ قال: إِنْ لَمْ تَصْدُقوني مَا تَرَكْتُ مِنْكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، فَقَالُوا: إِنَّهُ دَمُ نبيِّ اللهِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَقَالَ: لِمِثْلَ هَذَا يَنْتَقِمُ مِنْكُمْ رَبُّكمْ، ثُمَّ قالَ: يا يَحْيَى قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ، فاهْدَأْ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالىَ قَبْلَ أَنْ لَا أُبْقِيَ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَهَدَأَ الدمُ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} حَصِيرًا: مَحْبِسًا لا يَسْتَطِيعونَ الخُرُوجَ مِنْهُ أَبَدَ الآبِدينَ، وقَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَبِّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "للكافرينَ حَصيرًا" أَيْ سَجَنَّا لَهُم. وَقالَ الحسَنُ البَصْرِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصْرِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا حَاصِرَةٌ لَهُمْ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، فَمعنى "حَصِيرٌ" ذَاتُ حَصْرٍ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ لَزِمَتْهُ التَّاءُ لِجَرَيَانِهِ عَلَى مُؤَنَّثٍ كَمَا تَقُولُ: رَحِيمَةٌ وَعَلِيمَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ كَقَوْلِهِ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أَيْ ذَاتُ انْفِطَارٍ. وأَنْشَدَ الشيخُ أَبُو حَيَّان الأَنْدَلُسِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي تفسيرِهِ (البَحْر المُحِيط) قَوْلَ لَبِيدَ بْنِ ربيعَةَ:
وَمَقَامُهُ غَلَبَ الرِّجَالَ كَأَنَّهُمْ ............... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
البَحْرُ المُحِيطُ فِي التَفْسِيرِ للشَّيْخِ أبي حيَّانٍ الأَندلُسيِّ: (7/17). وقِيلَ: مَعْنَى "حَصِيرًا" بِساطًا، كَمَا يُبْسَطُ الحَصِيرُ. وقيلَ: "حصيرًا" فِراشًا يفرَشُ. وقَالَ: "وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ" ولمْ يقلْ: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَّ لَكُمْ، كما كانَ يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ تَأْكِيدًا عَلَى كُفْرِهِمْ بالعَوْدَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ كِتَابِهِم وتَزْويرِهِ وتَحْرِيفِهِ، ومُعَادَاةِ أَنْبِياءِ اللهِ وَقَتْلِهمْ. وزِيَادَةً فِي ذَمِّهم، وإِشْعَارًا بِعِلَّةِ الحُكْمِ عَلَيْهِمْ.
قولُهُ تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} عَسَى: فِعْلٌ مَاضٍ ناقصٌ جامِدٌ، أَوْ هو فعلٌ ماضٍ بِمَعْنَى حَقَّقَ، مبنيٌّ على الفتحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ، لتَعَذُّر ظهورِهِ على الأَلِفِ. و "رَبُّكُمْ" ربُّ: اسْمُ "عَسَى" إنْ أعربنا "عَسَى" فعلًا ناقصًا، وإِنْ أَعْرَبْنَا "عَسَى" فعلًا تامًّا فَـ "ربُّ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "أَنْ" حرفٌ مَصْدَرٌّ ناصِبٌ. وَ "يَرْحَمَكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ منْصوبٌ بـ "أَنْ"، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والتَقْديرُ: حَقَّقَ رَبُّكمْ رَحْمَتَهُ إِيَّاكم، إِنْ تُبْتُمْ وَانْزَجَرْتُمْ عَنِ المَعَاصِي.
قولُهُ: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} الوَاوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و "إِنْ" شرطيَّةٌ جازِمَةٌ. و "عُدْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والميمُ للجمعْ المُذكَّرِ والجُملةُ مُسْتَأْنفةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "عُدْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهَ، و "نا" التَعْظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ جَوابُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَرْطِيَّة مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "جَعَلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهَ، وَ "نا" التَعْظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، و "جَهَنَّمَ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "لِلْكافِرِينَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَ "الكافرينَ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدَ. وَ "حَصِيرًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "جَعَلَ". والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.