ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ: للعطفِ والتَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ وَالتَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ مَعًا. وَرَدَّ: أَرْجَعَ. وَ "الْكَرَّةُ" الرَّجْعَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ. و "عَلَيْهِمْ" ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَرَّةَ، لِأَنَّ رُجُوعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أُورْشَلِيمَ كَانَ بِتَغَلُّبِ مَلِكِ فَارِسَ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ. وَجِيءَ بِفِعْلٍ مَاضٍ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي جَوَابِ (إِذَا) فهُوَ مَاضٍ لَفْظًا مُسْتَقْبَلٌ مَعْنًى، لِأَنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ. وَصِيغَةُ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ. والْمَعْنَى: نَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا فَيَجُوسُونَ، وَنَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، وَنُمْدِدُكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَنَجْعَلُكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. فَهُوَ مِنْ تَمَامِ جَوَابِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ في الآيةَ: 5، السابقةِ: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما} مِنْ سُورةِ الْإِسْرَاءِ. وَمِنْ بَقِيَّةِ الْمَقْضِيِّ فِي الْكِتَابِ. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَسْرِ الْبَابِلِيِّينَ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ سَلَّطَ اللهُ مُلُوكَ فَارِسَ عَلَى مُلُوكِ بَابِلَ الْأَشُورِيِّينَ فَإِنَّ الْمَلِكَ (كُورَشَ) مَلِكَ فَارِسَ حَارَبَ الْبَابِلِيِّينَ وَهَزَمَهُمْ فَضَعُفَ سُلْطَانُهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ (دَارِيُوسُ) مَلِكُ فَارِسَ وَفَتَحَ بَابِلَ سَنَةَ 538 قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَذِنَ لِلْيَهُودِ فِي سَنَةِ 530 قَبْلَ الْمَسِيحِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَيُجَدِّدُوا دَوْلَتَهُمْ. وَذَلِكَ نَصْرٌ انْتَصَرُوهُ عَلَى الْبَابِلِيِّينَ إِذْ كَانُوا أَعْوَانًا لِلْفُرْسِ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَعْدُ بِهَذَا النَّصْرِ وَرَدَ أَيْضًا فِي كتاب أشعياء فِي الْإِصْحَاحَاتِ: الْعَاشِرِ، وَالْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ، وَغَيْرِهَا، وَفِي كِتَابِ أَرْمِيَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ.
وأَخْرَجَ الطَبَرِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أنَّهُ قالَ: نُصِرَ عَلَيهم بَنُو إِسْرائيلَ. تَفسيرُ الطَبَري: (15/30 ـ 31). وهذا جُزْءٌ مِنْ أَثَرٍ طويلٍ أَوْرَدَهُ السُّيوطِيُّ في الدُرِّ المَنْثُورِ: (4/299) وزَادَ نِسْبَتَهُ إِلى ابْنِ أَبي شَيْبَةَ، وابْنِ المُنْذِرِ، وابْنِ أَبي حاتِمٍ. وأَخرجَ أيْضًا في رِوايَةِ عَطِيَّةَ العَوْفيِّ عنْ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّهُ قالَ: وَقَتَلَ داودُ جالوتَ، وعادَ مُلْكُهم كَما كانَ. تَفْسيرُ الطَبَرِيِّ: (15/30 ـ 31).
قولُهُ: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْضِيِّ الْمَوْعُودِ بِهِ في الآيةِ: 4، السابقةِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}. وجَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ أَرْمِيَا: هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لِكُلِّ السَّبْيِ الَّذِي سَبَيْتُهُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ: ابْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا، وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ، وَكُلُوا ثَمَرَهَا، خُذُوا نِسَاءً وَلِدُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَاكْثُرُوا هُنَاكَ وَلَا تَقِلُّوا.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} أَيْ: جَعَلْناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا مِنْ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، وذَلِكَ بأنْ أَفْنَى مُعْظَمَ الْبَابِلِيِّينَ فِي حُرُوبِهم مَعَ الْفُرْسِ حَتَّى أَصبَحُ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بِلَادِ الْأَسْرِ عِنْدَ الْبَابِلِيِّينَ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهم. وَقيلَ: صيغةُ التَّفْضِيلُ (أَكْثَرَ) تَفْضِيلٌ لِواقِعِهِم الجديدِ وحالِهمْ حينها عَلَى حالِهِمْ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُمْ قَبْلَ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَالنَّفِيرُ. اسْمُ جَمْعٍ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْفِرُ مَعَ المَلِكِ مِنْ حاشِيَتِهِ وَقَوْمِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَراخٍ. و "رَدَدْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى. وَ "نَا" التَعْظِيمِ هذه ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. و "لَكُمُ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "رَدَدْنا"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "الْكَرَّةَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ. وَ "عَلَيْهِمْ" على: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "رَدَدْنا" أَوْ بِالمفعولِ بِه "الْكَرَّةَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرٍّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "بَعَثْنَا" عَلَى كونِها جَوَابَ "إِذا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "أَمْدَدْنا" مِثْلُ "رَدَدْنا" معطوف عليْهِ. وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "بِأَمْوالٍ" الباءُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَدَدْنا"، و "أَمْوالٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "بَنِينَ" مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْوالٍ مجرورٌ مثلُهُ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السَّالِمِ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "جَعَلْناكُمْ" مثلُ "أَمْدَدْناكم". و "أَكْثَرَ" مَفْعولٌ بهِ ثانٍ. و "نَفِيرًا" منصوبٌ على التَمْييزِ، والجُملةُ الفِعْلِيِّةُ هذهِ مَعْطوفَةٌ عَلى "أَمْدَدْناكُمْ" فلا محلَّ لها منَ الإعرابِ.