ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قولُهُ ـ تَعَالى جَدَّهُ: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} مَا زَالَ الحَديثُ عَنْ بني إسرائيلَ قومِ سيِّدِنَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَي: أَنْتُمْ مِنْ ذريَّةِ قومٍ مُؤمنينَ، وَكَانَ الذينَ حُمِلُوا في السَّفينَةِ مَعَ نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ، هُمُ المُؤْمنونَ الذينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَكونُوا مُشْركينَ، كَمَا قالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ هود: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَق عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} الآية: 40. والمَعْنَى أَنَّ أَصْلَكُمْ قَدِ اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ المُشْرِكِينَ لِيَكونَ الإيمانُ هوَ الباقي، وَقَدْ كَرَّمَ اللهُ مَنْ تَبِعَ نُوحًا، والذينَ آمَنُوا بِهِ بِتَكْريمِ نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ، وذَكَرَ فَضْلَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ لِأَنَّنا نَجَّيْنَا الذينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنَ الطُوفانِ والغَرَقِ، وَحافَظْنا عَلى حَياتِهم وبقائهم، وَأَنْتُمْ ذُرِّيَّتَهم، فَلا بُدَّ أَنْ تَذْكُرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ العظيمةَ عَلَيْكُمْ للهِ تَعَالى، فإنَّ بْقاءَكمُ إلى الآنَ هو مِنْ بَقاءِ آبائكم. فَكَأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ نَجَّى آباءَهم مَعَ نُوحٍ، فَلْيَسْتَمِعُوا إِلى مِنْهَجِ اللهِ الذي جَرَّبَهُ آباؤهم، وَوَجدوا أَنَّ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ تَكونُ لَهُ النَجاةُ والفلاحُ، ويكونُ آمنًا مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالى. قالَ قَتَادَةُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ أَنْجَى اللهُ في تِلْكَ السَفِينَةِ. وقَالَ مُجَاهِدٌ فيما رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عنْهُ. وَالْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ كُلُّ مَنِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، وَهُمْ جَمِيعُ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمَعْنَى يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ لَا تُشْرِكُوا. وَذَكَرَ نُوحًا لِيُذَكِّرهُمْ نِعْمَةَ إِنْجَاءِ آبائهم مِنَ الْغَرَقِ. وَقدْ كانُوا هم في صُلْبِ مَنَ نَجَا.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} أَيْ: أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الشُّكْرِ، فذَكَرَ لَهُ مَوْلاهُ ـ سُبْحانَهُ، وَصْفَيْنِ كَريمَيْنِ: الأَوَّلُ: أَنَّهُ كانَ متَّصِفًا بالعبوديةِ لمولاهُ متحقِّقٌ بهذا الوَصْفِ الرفيعِ يُحِسُّ بِنِعْمَةِ العُبُودِيَّةِ للهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنْ ذَا جَبَروتٍ، بَلْ كانَ خاضِعًا للهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، والخُضُوعُ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ العِزَّةُ التي لَا ذُلَّ فِيها ولا اسْتِكْبَارَ. والثاني: أَنَّهُ شَكُورٌ، أَيْ كَثيرَ الشُّكْرِ للهِ تَعَالى عَلَى نَعْمائِهِ في سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَكَلَ قَالَ: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي وَلَوْ شَاءَ أَجَاعَنِي)، وَإِذَا شَرِبَ قَالَ: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَسْقَانِي وَلَوْ شاءَ أَظْمَأَني، وإِذا اكْتَسَى قالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي كَسَانِي وَلَوْ شَاءَ أَعْرَانِي، وَإِذَا احْتَذَى قَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي حَذَانِي وَلَوْ شَاءَ أَحْفَانِي)). وَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ فِي عَافِيَةٍ وَلَوْ شَاءَ حَبَسَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْإِفْطَارَ عَرَضَ طَعَامَهُ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُحْتَاجًا آثَرَهُ بِهِ. وفي ذِكْرِ هَذَيْنِ الوَصْفيْنِ الشَريفَيْنِ لِنُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، تَعْليلٌ لِشَرَفِ اتِّباعِهِ وبَيَانٌ بِأَنَّ مَنْ حَمَلَهُمْ نوحٌ مَعَهُ في السفينَةِ كانوا جَديرينَ بالتَكْريمِ، كما أنَّ فيهِ دَعْوَةٌ لأَنْ يَجْعَلوهُ أُسْوةً، فقدْ جَعَلَهُ آباؤهمْ الذين حَمَلَهُمْ مَعَهُ أُسْوَةً لَهُمْ، فلْيَتَّخِذوهُ هُمْ أَيْضًا أُسْوَةً.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا مُفِيدَةٌ تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَكِيلًا، لِأَنَّ أَجْدَادَهُمْ حُمِلُوا مَعَ نُوحٍ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ عَلَيْهِمْ، لِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ. وقد َكَانَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا، وَالَّذِينَ حُمِلُوا مَعَهُ كَانُوا شَاكِرِينَ مِثْلَهُ، أَيْ: فَاقْتَدُوا بِهِمْ وَلَا تَكْفُرُوا نِعَمَ اللهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ فَتَكُونُ مِمَّا خَاطَبَ اللهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُذَيِّلَةٌ لِجُمْلَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَيَكُونُ خِطَابًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ مَلاءَمَةِ قَوْلِهِ: "إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا" لِمَا قَبْلَهُ؟. قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا وَلَا تُشْرِكُوا بِي، لِأَنَّ نُوحًا ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَبْدُ شَكُورًا حينَ يكونُ مُوَحِّدًا لَا يَرَى حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ إِلَّا مِنْ فَضْلِ اللهِ ـ تعالى، وَأَنْتُمْ ذُرِّيَّةُ قَوْمِهِ فَاقْتَدُوا بِنبيِّ اللهِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا أَنَّ آباءَكُمُ اقْتَدُوا بِهِ، واللهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ اللهَ تعالى نَجَّى نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ شُكْرِهِ وَشُكْرِهِمْ، وذلك للتَحْرِيضِ عَلَى التأَسِّي بِأُولَئِكَ. وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَشْرَكُوا لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابٌ وَاسْتِئْصَالٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [هود: 48. وَفِيهِ أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ كَانُوا شِقَّيْنِ شِقٌّ بَارٌّ مُطِيعٌ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَشِقٌّ مُتَكَبِّرٌ كَافِرٌ وَهُوَ وَلَدُهُ الَّذِي غَرِقَ، فَكَانَ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَبًا لفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْفَرِيقِ الْبَارِّ، فَإِنِ اقْتَدَوْا بِهِ نَجَوْا وَإِنْ حَادُوا فَقَدْ نَزَعُوا إِلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُوشِكُ أَنْ يَهْلَكُوا. وَهَذَا التَّمَاثُلُ هُوَ نُكْتَةُ اخْتِيَارِ ذِكْرِ نُوحٍ مِنْ بَيْنِ أَجْدَادِهِمُ الْآخَرِينَ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُولَئِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْتِئْصَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّتَيْنِ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَعُلُوِّهِمْ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ إِهْمَالِهِمْ وَعْدَ اللهِ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَمَا نَجَّاهُ. وَالِاقْتِدَاءُ بِصَالِحِ الْآبَاءِ مَجْبُولَةٌ عَلَيْهِ النُّفُوسُ، وَهو مَحَلُّ تَنَافُسٍ عِنْدَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُ ذَلِكَ كَمُثِيرٍ لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ الِانْتِسَابِ. وَكَانَ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَثَلًا فِي كَمَالِ النَّفْسِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَتَنْبَعِثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا ..................... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ
قولُهُ تَعَالَى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ذُرِّيَّةَ: مُنَادَى مُضافٌ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّداءِ؛ أَيْ: يَا ذُرِّيَةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍ، وجُمْلَةُ النِّداءِ مَقُولٌ لِذَلِكَ القَوْلِ المَحْذُوفِ. ويجوزُ أنْ يكونَ منصوبًا على البدلِ مِنْ قولِهِ مِنَ الآيةِ التي قبْلَها {وكيلًا}. أو أَنَّها مَنْصوبَةٌ عَلى المَفْعُولِ الأَوَّلِ لـ "تتخذوا"، والمفعولُ الثاني هوَ "وكيلًا" فَقُدِّمَ عليْهِ، ويَكُونُ "وَكيلًا" ممَّا وقع مفردَ اللفظ والمَعْنِيُّ بِهِ جَمْعٌ، أَيْ: لا تَتَّخِذوا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا وُكَلاءَ، كَقَولِهِ مِنْ سُورةِ آلِ عُمران: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} الآيةَ: 80. وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِالإضافَةِ إليْهِ. أَوْ نَكِرةٌ مَوْصوفةٌ. وَ "حَمَلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتَّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهَ، سُبْحانَهُ وَ "نَا" التَعْظيمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنْ"، وَالعائدُ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: مَنْ حَمَلْنَاهُمْ. أَوْ صفةٌ لـ "مَنْ" في محلِّ الجرِّ إِنْ أُعْرِبَتْ "مَنْ" نَكِرةً مَوْصوفةً. وَ "مَعَ" مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنَ الضَميرِ المَحْذوفِ، أَوْ بِـ "حَمَلْنا" أَوْ بِجَوابِ النِّداءِ المَحْذوفِ، والتَقديرُ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، كُونُوا كَمَا كانَ نُوحٌ فِي العُبوديَّةِ للهِ تَعَالى، والانْقِيادِ لأَحكامِهِ، وَفِي كَثْرَةِ الشُكْرِ للهِ تعالى وذلك بِفِعْل الطاعاتِ، وَهُوَ مُضافٌ. وَ "نُوحٍ" اسْمٌ مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاء،: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "نُوحٍ" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "عَبْدًا" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها. و "شَكُورًا" صِفَتُهُ منصوبةٌ مثله، وَجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {ذُرِّيَّةَ} بالنَّصبِ، وَقَرَأَتْ فِرْقةٌ "ذُرِّيَّةُ" بالرَّفْعِ، وَفِيها وجْهَانِ، أَوَّلُهُما: ذَكَرَهُ أَبُو البقاءِ العُكْبَريُّ بِأَنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ والتقديرُ: هُوَ ذُرِّيَّةُ، وَلَيْسَ بواضحٍ. والثاني: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ واوِ "تتَّخِذوا" قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي القِراءَةِ بالتَّاءِ، لأَنَّكَ لا تُبْدِلُ مِنْ ضَميرٍ مُخَاطَبٍ، فلَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُكَ زَيْدًا، عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ لَمْ يَجُزْ ذلكَ. وَرَدَّ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانٍ هَذا الإِطْلاقَ وَقَالَ: يَنْبَغِي التَفْصيلُ، وَهوَ إِنْ كانَ بَدَلَ بَعْضٍ أَوْ اشْتِمَالٍ جَازَ، وَإِنْ كانَ بَدَلَ كلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَأَفادَ الإِحاطةَ نحو: (جِئْتُمْ كَبيرُكم وَصَغِيرُكمْ) جَوَّزَهُ الأَخْفَشُ والكُوفِيُّونَ. قال: وَهُوَ الصَحِيحُ. قالَ السمينُ الحلَبيُّ: وَتَمْثيلُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِقَوْلِه: (ضَرَبْتُكَ زَيْدًا) قَدْ يَدْفَعُ عَنْهُ هَذَا الرَدَّ.
وقالَ مَكِيٌّ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ في الكلامِ عَلَى قِراءةِ مَنْ قَرَأَ بالياءِ عَلَى البَدَلِ مِنَ المُضْمَرِ فِي "يَتَّخِذوا" وَلَا يَحْسُنُ ذَلِكَ فِي قِراءَةِ التاءِ؛ لأَنَّ المُخَاطَبَ لَا يُبْدَلُ مِنْهُ الغائبُ، وَيَجُوزُ الخَفْضُ عَلَى البَدَلِ مِنْ بَني إِسْرائيلَ. فرَدَّ الحَلبيُّ: أَمَّا الرَّفْعُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قُرِئَ بِهِ، وَكَأَنَّهُ لمْ يَطَّلِعْ عليْهِ، وأَمَّا الجَرُّ فَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ فِيمَا عَلِمْتُ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: لأَنَّ المُخاطَبَ لا يُبْدَلُ مِنْهُ الغائبُ، ما وَرَدَ عَلَى ابْنِ عَطِيَّةَ، بَلْ أَوْلَى لأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِثالًا يُبَيِّنُ مُرادَهُ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ.