بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قولُهُ: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ الْمُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ مِنْ طَوَافٍ بهَا واعتكاف عِنْدهَا وَصَلَاةٍ.
وَأَصْلُ الْمَسْجِدِ: أَنَّهُ اسْمُ مَكَانِ السُّجُودِ. وَأَصْلُ الْحَرَامِ: الْأَمْرُ الْمَمْنُوعُ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْمِ ـ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْحَرَمَ. فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالْحَرَامِ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا يُنَاسِبُهُ، نَحْوُ قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ الْمَائِدَة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية: 3، أَيْ أَكْلُ الْمِيتَةِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
يَا شَاةَ ما قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ............ حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
أَيْ مَمْنُوعٌ قُرْبَانُهَا لِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهُمْ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَمْنُوعِ مِنْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ مَا. وَيُبَيَّنُ بِذِكْرِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَدْ لَا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مِنْ سورةِ البَقَرة: {الشَّهْرُ الْحَرامُ} الْآية: 194، أَيِ الْحَرَامُ فِيهِ الْقِتَالُ فِي عُرْفِهِمْ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْمُتَعَلَّقُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، فَهُوَ مِنَ الْحَذْفِ لِلتَّعْمِيمِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، فَفِي نَحْوِ قولِهِ من سورة الْمَائِدَة: {الْبَيْتَ الْحَرامَ} الآية: 2، يُرَادُ الْمَمْنُوعُ مِنْ عُدْوَانِ الْمُعْتَدِينَ، وَغَزْوِ الْمُلُوكِ وَالْفَاتِحِينَ، وَعَمَلِ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ فِيهِ. وَ "الْحَرَامُ" بوزنِ "فَعَال" بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ حَصَانٌ، أَيْ مَمْنُوعَةٌ بِعَفَافِهَا عَنِ النَّاسِ. فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلسُّجُودِ، أَيْ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمَجْعُولُ حَرَمًا لَهَا. وَهُوَ يَخْتَلِفُ سَعَةً وَضِيقًا بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ لِلطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ. وَقَدْ بَنَى قُرَيْشٌ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ بُيُوتَهُمْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَجَعَلَ قُصَيٌّ بِقُرْبِهِ دَارَ النَّدْوَةِ لِقُرَيْشٍ وَكَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَانْحَصَرَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِهِ بُيُوتُ عَشَائِرِ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ كُلُّ عَشِيرَةٍ تَتَّخِذُ بُيُوتَهَا مُتَجَاوِرَةً. وَمَجْمُوعُ الْبُيُوتِ يُسَمَّى شِعْبًا ـ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَكَانَتْ كُلَّ عَشِيرَةٍ تَسْلُكُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَنْفَذِ دُورِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جِدَارٌ يُحْفَظُ بِهِ. وَكَانَتِ الْمَسَالِكُ الَّتِي بَيْنَ دُورِ الْعَشَائِرِ تُسَمَّى أَبْوَابًا لِأَنَّهَا يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مِثْلُ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَبَابِ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَابِ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُوَ بَابُ الصَّفَا، وَبَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَبَابُ بَنَيِ تَيْمٍ. وَرُبَّمَا عُرِفَ بَعْضُ الْأَبْوَابِ بِجِهَةٍ تَقْرُبُ مِنْهُ مِثْلُ بَابِ الصَّفَا وَيُسَمَّى بَابَ بَنِي مَخْزُومٍ. وَبَابَ الْحَزْوَرَةِ سُمِّيَ بِمَكَانٍ كَانَتْ بِهِ سُوقٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ تُسَمَّى الْحَزْوَرَةُ. وَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتْ أَبْوَابًا تُغْلَقُ أَمْ كَانَتْ مَنَافِذَ فِي الْفَضَاءِ فَإِنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ حَاجِزَيْنِ.
وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جِدَارًا يُحْفَظُ بِهِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَلُقِّبَ بِالْمَسْجِدِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، جَعَلَهُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ كَمَا حَكَى اللهُ تعالى عَنْهُ: {رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية: 37 من سورة إِبْرَاهِيم. وَلَمَّا انْقَرَضَتِ الْحَنِيفِيَّةُ وَتَرَكَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الصَّلَاةِ تَنَاسَوْا وَصْفَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَصَارُوا يَقُولُونَ: الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ. فَغَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا التَّعْرِيفُ التَّوْصِيفِيُّ فَصَارَ لَهُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ. وَلَا أَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي عَصْرِ تَحْرِيمِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآية: 144، منْ سورةِ الْبَقَرَةِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}. وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 2، منْ سورةِ الْمَائِدَة: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}. وَعَلَمِيَّتُهُ بِمَجْمُوعِ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ وَكِلَاهُمَا مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ. فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِثْلُ النَّجْمِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي مثل الصَّعق، فَحَصَلَ التَّعْرِيفُ بِمَجْمُوعِهِمَا، وَلَمْ يَعُدَّ النُّحَاةُ هَذَا النَّوْعَ فِي أَقْسَامِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ. وَلَعَلَّهُمُ اعْتَبَرُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ. وَلَا بُدَّ مِنْ عَدِّهِ لِأَنَّ عَلَمِيَّتَهُ صَارَتْ بِالْأَمْرَيْنِ.
وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَعْرُوفُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الْكَائِنِ بِإِيلِيَاءَ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْأَقْصَى، أَيِ الْأَبْعَدُ. وَالْمُرَادُ بُعْدُهُ عَنْ مَكَّةَ، بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ نِهَايَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ اقْتَضَاهُ هُنَا زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مُعْجِزَةِ هَذَا الْإِسْرَاءِ وَكَوْنُهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ لِكَوْنِهِ قَطَعَ مَسَافَةً طَوِيلَةً فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ. وَبِهَذَا الْوَصْفِ الْوَارِدِ لَهُ فِي الْقُرْآنِ صَارَ مَجْمُوعُ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا الْعَلَمَ لَهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يَصِفُونَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَسْجِدُ إِيلِيَاءَ. وَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدٌ لِدِينٍ إِلَهِيٍّ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ. وَفِي هَذَا الْوَصْفِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ وَضْعِهَا مُعْجِزَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ هُوَ مَسْجِدُ طِيبَةَ الَّذِي هُوَ قَصِيٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَقْصَى مِنْهُ حِينَئِذٍ.
فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالَّتِي بَينهَا قَول النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدُ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي)). وَفَائِدَةُ ذِكْرِ مَبْدَأِ الْإِسْرَاءِ وَنِهَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّنْصِيصُ عَلَى قِطَعِ الْمَسَافَةِ الْعَظِيمَةِ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الظَّرْفِ وَهُوَ لَيْلًا وَمِنَ الْمَجْرُورَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَسْرى، فَهُوَ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ. وَثَانِيهِمَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذَا الْإِسْرَاءَ رَمْزًا إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَ مَا جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُ التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الصَّادِرُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَانَ مَقَرُّهَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ إِلَى خَاتِمَتِهَا الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ مَكَّةَ أَيْضًا فَقَدْ صَدَرَتِ الْحَنِيفِيَّةُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَفَرَّعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا عَادَ الْإِسْرَاءُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ كُلَّ سُرًى يَعْقُبُهُ تَأْوِيبٌ. وَبِذَلِكَ حَصَلَ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا وَرَدَ ذَلِك عَن النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلٌ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ حُدِّدَ بِمُدَّةٍ هِيَ مِنْ مُدَّةِ حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ ذِكْرَهُ. وَهُوَ مِمَّا خصَّ اللهُ نَبِيَّهُ بِمَعْرِفَتِهِ. وَالتَّوْرَاةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَخَلَ أَرْضَ كَنْعَانَ (وَهِيَ بِلَادُ فِلَسْطِينَ) نَصَبَ خَيْمَتِهِ فِي الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيلَ (بَيْتُ إِيلَ مَدِينَةٌ عَلَى بُعْدِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى الشَّمَالِ وَهُوَ بَلَدٌ كَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ (لَوْزًا) فَسَمَّاهُ يَعْقُوبُ: بَيْتُ إِيلَ، كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) وَغَرْبِيَّ بِلَادِ عَايِ (مَدِينَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ تُعْرَفُ الْآنَ الطَّيِّبَةُ) وَبَنَى هُنَالِكَ مَذْبَحَا لِلرَّبِّ. وَهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَذْبَحَ عَلَى الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الْقَرَابِينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ .................. صَوَّرُوهَا فِي مَذْبَحِ الْمِحْرَابِ
أَيْ مَكَانِ الْمَذْبَحِ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ مَحل التَّعَبُّد،
قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عُمرَان: {وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ} الآية: 39. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَوَخَّى دَاوُدُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ الْخَيْمَةَ وَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ مِحْرَابَهُ أَوْ أوحى الله إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَوْصَى ابْنَهُ سُلَيْمَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ، أَيِ الْهَيْكَلَ. وَقَدْ ذَكَرَ مُؤَرِّخُو العِبْرانِيَّةِ وَمِنْهُم (يُوسيفوس) أَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي سَكَنَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَرْضِ كَنْعَانَ اسْمُهُ (نَابُو) وَأَنه هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي ابْتَنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ الْهَيْكَلَ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بِهِ الصَّخْرَةُ.
وَقِصَّةُ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ إِيَّاهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَقَدِ انْتَابَهُ التَّخْرِيبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: الأُولَى: حِينَ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكُ بَابِلَ سَنَةَ: (578). قَبْلَ الْمَسِيحِ ثُمَّ جَدَّدَهُ الْيَهُودُ تَحْتَ حُكْمِ الْفُرْسِ. والثَّانِيَةُ: خَرَّبَهُ الرُّومَانُ فِي مُدَّةِ طِيطُوسَ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، وَأُعِيدَ بِنَاؤُهُ، فَأَكْمَلَ تَخْرِيبَهُ أَدْرِيَانُوسُ سَنَةَ: (135) لِلْمَسِيحِ وَعَفَّى آثَارَهُ فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ إِلَّا أَطْلَالٌ. ولَمَّا تَنَصَّرَتِ الْمَلِكَةُ هيلانة أم الإنْبَراطور قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ (بِيزَنْطَةَ) وَصَارَتْ مُتَصَلِّبَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَأُشْرِبَ قَلْبُهَا بُغْضَ الْيَهُودِ بِمَا تَعْتَقِدُهُ مِنْ قَتْلِهِمُ الْمَسِيحَ كَانَ مِمَّا اعْتَدَتْ عَلَيْهِ حِينَ زَارَتْ أُورْشَلِيمَ أَنْ أَمَرَتْ بِتَعْفِيَةِ أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنْ يُنْقَلَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسَاطِينِ وَنَحْوِهَا فَتُبْنَى بِهَا كَنِيسَةٌ عَلَى قَبْرِ الْمَسِيحِ الْمَزْعُومِ عِنْدَهُمْ فِي مَوْضِعٍ تَوَسَّمُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَوْضِعَ الْقَبْرِ (وَالْمُؤَرِّخُونَ مِنَ النَّصَارَى يَشُكُّونَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُدْعَى أَنَّ الْمَسِيحَ دُفِنَ فِيهِ) وَأَنْ تُسَمِّيَهَا كَنِيسَةَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَتْ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَرْمَى أَزْبَالِ الْبَلَدِ وَقِمَامَاتِهِ فَصَارَ مَوْضِعُ الصَّخْرَةِ مَزْبَلَةً تَرَاكَمَتْ عَلَيْهَا الْأَزْبَالُ فَغَطَّتْهَا وَانْحَدَرَتْ عَلَى دَرَجِهَا. وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَقِيَّةَ أَرْضِ الشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيَشْهَدَ فَتْحَ مَدِينَة إيلياء وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ قَبْلِ (أُورْشَلِيمَ) وَصَارَتْ تُسَمَّى إِيلِيَاءَ ـ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ عِنْد الْعَرَب عِنْد مَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فِلَسْطِينَ.
وإيلياء اسْمُ أَحَدِ أَنْبِياءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ التَّاسِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَبَيْتَانِ بَيْتُ اللهِ نَحْنُ وُلَاتُهُ ................. وَبَيْتٌ بِأَعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ
وَانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُمَرَ وَأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ نَصَارَى. قَالَ عُمَرُ لِبِطْرِيقٍ لَهُمُ اسْمُهُ (صَفْرُونِيُوسَ) (دُلَّنِي على مَسْجِدِ دَاوُود)، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الْبَابِ وَقَدِ انْحَدَرَ الزِّبْلُ عَلَى دَرَجِ الْبَابِ فَتَجَشَّمَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ وَنَظَرَ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَسْجِد دَاوُد الَّذِي أَخْبَرَنَا رَسُول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَيْهِ). ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ يَكْنُسُونَ الزِّبْلَ عَنِ الصَّخْرَةِ حَتَّى ظَهَرَتْ كُلُّهَا، وَمَضَى عُمَرُ إِلَى جِهَةِ مِحْرابِ دَاوُد فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِ الْقُدْسِ إِلَى فِلَسْطِينَ. وَلَمْ يَبْنِ هُنَالِكَ مَسْجِدًا إِلَى أَنْ كَانَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمَرَ بِابْتِدَاءِ بِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَى الصَّخْرَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَوَكَّلَ عَلَى بِنَائِهَا رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ الْكَنَدِيَّ أَحَدَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَابْتَدَأَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. كَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ. وَلِهَذَا فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ اعْتُبِرَ فِيهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ، حُكْمَ الْمَسْجِدِيَّةِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ. فَالتَّسْمِيَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَهِيَ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مَسْجِدًا بِأَكْمَلِ حَقِيقَةِ الْمَسَاجِدِ. وَاسْتَقْبَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا الْمُقَارِنِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إِلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمَّ نُسِخَ اسْتِقْبَالُهُ وَصَارَتِ الْكَعْبَةُ هِيَ الْقِبْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ.
قولُهُ: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} جِيءَ فِي الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ الْمَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السَّامِعِينَ. وَالْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ حَوْلَهُ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْفِعْلِ، مِثْلُ عَافَاكَ اللهُ. وَالْبَرَكَةُ: نَمَاءُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوَابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ وبإجابة دُعَاءِ الدَّاعِينَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} فِي آلِ عِمْرَانَ: 96. وَقَدْ وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ آلِ عُمْرَان: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} الآيةَ: 96.
وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ هَذَا التَّبْرِيكِ أَنَّ شُهْرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْبَرَكَةِ وَبِكَوْنِهِ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَقَدْ تَنَاسَى النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالْعَرَبُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَالنَّصَارَى عَفَّوْا أَثَرَهُ مِنْ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَالْيَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ وَأَيِسُوا مِنْ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْإِعْلَامِ بِبَرَكَتِهِ. وَ "حَوْلَ" يَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَانِ اسْمِ مَا أُضِيفَ "حَوْلَ" إِلَيْهِ. وَكَوْنُ الْبَرَكَةِ حَوْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهَا إِذَا حَصَلَتْ حَوْلَهُ فَقَدْ تَجَاوَزَتْ مَا فِيهِ فَفِيهِ لَطِيفَةُ التَّلَازُمِ، وَلَطِيفَةُ فَحَوَى الْخِطَابِ، وَلَطِيفَةُ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّكْثِيرِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ....... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
وَلِكَلِمَةِ حَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُوَقِّعِ مَا لَيْسَ لِكَلِمَةِ (فِي) فِي بَيْتِ زِيَادٍ، ذَلِكَ أَنَّ ظَرْفِيَّةَ (فِي) أَعَمُّ. فَقَوْلُهُ: (فِي قُبَّةٍ) كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا فِي سَاكِنِ الْقُبَّةِ لَكِنْ لَا تُفِيدُ انْتِشَارَهَا وَتَجَاوُزَهَا مِنْهُ إِلَى مَا حَوْلَهُ.
وَأَسْبَابُ بَرَكَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَثِيرَةٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ كَلِمَةُ حَوْلَهُ. مِنْهَا أَنَّ وَاضِعَهُ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهَا مَا لَحِقَهُ مِنَ الْبَرَكَةُ بِمَنْ صَلَّى بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاء من دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ بِحُلُولِ الرَّسُولِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِعْلَانِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ فِيهِ وَفِيمَا حَوْلَهُ، وَمِنْهَا بَرَكَةُ مَنْ دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن قَبْرِي دَاوُود وَسُلَيْمَانَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْبَرَكَاتِ حُلُول النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِ ذَلِكَ الْحُلُولُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ، وَصَلَاتُهُ فِيهِ بِالْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ.
قولُهُ: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} تَعْلِيلُ الْإِسْرَاءِ بِإِرَادَةِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي لِأَجْلِهَا مَنَحَ اللهُ نَبِيَّهُ مِنْحَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ لِلْإِسْرَاءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي "الصَّحِيحِ" وقدْ تَقدَّمَ. وَأَهَمُّهَا وَأَجْمَعُهَا إِرَاءَتُهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، أَيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الْآيَاتِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ عَنْ وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تُفِيدُ حَصْرَ الْغَرَضِ مِنْ مُتَعَلَّقِهَا فِي مَدْخُولِهَا. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ أَعْلَقُ بِتَكْرِيمِ الْمُسْرَى بِهِ. وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِ، لِأَنَّ إِرَاءَةَ الْآيَاتِ تَزِيدُ يَقِينَ الرَّائِي بِوُجُودِهَا الْحَاصِلِ مِنْ قَبْلِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} الْأَنْعَام: 75. فَإِنَّ فِطْرَةَ اللهِ جَعَلَتْ إِدْرَاكَ الْمَحْسُوسَاتِ أَثْبَتَ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَدْلُولَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ الْبَقَرَة: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية: 260، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللهُ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيل أَو لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ، لِأَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ مُتَّسِعُ الْمَدَى لَا حَدَّ لَهُ فَقَدْ أَنْطَقَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حِكْمَةِ نُبُوءَةٍ، وَقَدْ بَادرَ اللهُ ـ تَعَالَى، سيِّدَنَا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِإِرَاءَةِ الْآيَاتِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهَا، وذلك تَوْفِيرًا فِي الْفَضْلِ ورفعًا في مقامِهِ ـ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. قَالَ الشاعرُ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَأَجَادَ:
وَلَكِنْ لِلْعِيَانِ لَطِيفُ مَعْنَى ..................... لَهُ سَأَلَ الْمُعَايَنَةَ الْكَلِيمُ
وَتَقْوِيَةُ يَقِينِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُمْ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْيَقِينِ يَزِيدُونَ ارْتِقَاءً عَلَى دَرَجَةِ مُسْتَوَى الْبَشَرِ وَالْتِحَاقًا بِعُلُومِ عَالَمِ الْحَقَائِقِ وَمُسَاوَاةً فِي هَذَا الْمِضْمَارِ لِمَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ مِنَ الْغَيْبَةِ الَّتِي فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ وَضَمِيرَيْهِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: "بارَكْنا" و "لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا" سُلُوكٌ لِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ الْمُتَّبَعَةِ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. وَقد امْتَازَ الِالْتِفَاتُ هُنَا بلطائفَ منها:
ـ أَنَّهُ لَمَّا اسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ بِجُمْلَةِ التَّسْبِيحِ وَجُمْلَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ صَارَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ مَقَامَ مُشَاهَدَةٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُغَيِّرَ الْإِضْمَارَ إِلَى ضَمَائِرِ الْمُشَاهَدَةِ وَهُوَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ.
ـ ومنها: الْإِيمَاءُ إِلَى أَن النبيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْدَ حُلُولِهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى مَقَامِ مَصِيرِهِ فِي عَالَمِ الْمُشَاهَدَةِ.
ـ وَمِنْهَا: التَّوْطِئَةُ وَالتَّمْهِيدُ إِلَى مَحْمَلٍ مَعَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَيَتَبَادَرُ عَوْدُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ ضمير لِنُرِيَهُ لِأَنَّ الشَّأْنَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الِالْتِفَاتِ بِالْقُرْبِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْسَنِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ عَائِدَانِ إِلَى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَاسْتَقْرَبَهُ الطَّيْبِيُّ، وَلَكِنَّ جَمْهَرَةَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ احْتِمَالَهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَقْصُودٌ. وَقَدْ تَجِيءُ الْآيَاتُ مُحْتَمِلَةً عِدَّةَ مَعَانٍ. وَاحْتِمَالُهَا مَقْصُودٌ تَكْثِيرًا لِمَعَانِي الْقُرْآنِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ فَهْمِهِ. وأَيًّا ما كَانَ فَمَوْقِعُ "إِنَّ" التَّوْكِيدُ وَالتَّعْلِيلُ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فَصْلُ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا. وَهِيَ إِمَّا تَعْلِيلٌ لإسْنادِ فِعْلِ "لِنُرِيَهُ" إِلَى فَاعِلِهِ وَإِمَّا تَعْلِيلٌ لِتَعْلِيقِهِ بِمَفْعُولِهِ، فَيُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لمن يَنْبَغِي، فَهُوَ مِنْ إِيتَاءِ الْحِكْمَةِ مَنْ هُوَ أَهْلُهَا.
وَالتَّعْلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إِلَى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْقَعُ، إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيلِ إِسْنَادِ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ لِلتَّعْلِيلِ هُوَ إِعْطَاءُ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الْعَجِيبَةِ لِمَنْ شَكَّ الْمُشْرِكُونَ فِي حُصُولِهَا لَهُ وَمَنْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهَا مِثْلُهُ.
عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ وَبِضَمِيرِ الْفَصْل قصرا مؤكدا، وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلْقَلْبِ، أَيْ هُوَ الْمُدْرِكُ لِمَا سَمِعَهُ وَأَبْصَرَهُ لَا الْكَاذِبُ وَلَا الْمُتَوَهِّمُ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذَا الْقَصْرُ يُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلرَّدِّ. وَلَا يُنَازِعُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْمُسْمِعُ وَالْمُبْصِرُ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّسُولِ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّوَهُّمِ.
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلَى تَقْدِير كَونهمَا للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُمَا عَلَى أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَبُولِهِمَا لِتَلَقِّي تِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُدْهِشَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ النَّجْم: {مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} الآية: 17، وَقَوْلُهُ: {أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرَى} الآية: 12 منها. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمُنَاسِبُ أَنْ تُؤَوَّلَا بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ الْمُبْصِرِ، أَيِ الْقَادِرِ عَلَى إِسْمَاعِ عَبْدِهِ وَإِبْصَارِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ .................. يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ
قولُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} سُبْحانَ: مَنْصوبٌ عَلى المَفْعوليَّةِ المُطْلَقَةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجوبًا، والتَقديرُ: أُسَبِّحُ اللهَ سُبْحانًا، وهو مضافٌ، والجُمْلَةُ المَحذوفةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها منَ الإعرابِ. و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "أَسْرَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصولِ. و "بِعَبْدِهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَسْرَى" و "عَبْدِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "لَيْلًا" مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْرى" أَيْضًا.
قولُهُ: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} مِنَ: حَرْفُ جَرٍّ لابتِداءِ الغايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْرى" أَيْضًا. و "المَسْجِدِ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ. و "الْحَرامِ" صِفِةُ "الْمَسْجِدِ" مجرورةٌ مِثْلهُ. و "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْرى" أَيْضًا. و "الْمَسْجِدِ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ. و "الْأَقْصَى" صِفَةٌ أُولَى لهُ مَجرورةٌ وعلامةُ جرِّها الكسْرَةُ المُقدَّرَةُ عَلى آخِرِهِ، منعَ من ظهورِها التَعَذُّرُ. وهذه الجُملةُ الفِعْلِيَّةُ أَيْضًا صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الَّذِي: اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ صفةٌ ثانيةٌ لِـ "الْمَسْجِدِ". و "بارَكْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. و "حَوْلَهُ" الأَظْهَرُ فيهِ أَنَّهُ مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفيَّةِ المكانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بارَكْنا"، وَهُوَ مُضافٌ، وَقالَ أَبو البَقاءِ العُكْبَريُّ: إنَّهُ مَفعولٌ بِهِ، أَيْ: طَيَّبْنا ونَمَّيْنا. يَعْنِي ضَمَّنَهُ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، قالَ السَّمِينُ الحَلَبِيُّ في الدُرِّ المَصون: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لا يَتَصَرَّف. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ.
قولُهُ: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ، و "نُرِيَهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ جَوازًا بَعْدَ لامِ كَيْ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُه (نحنُ) للتعظيمِ يَعودُ عَلى اللهِ تَعَالى، والرُؤيةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ. وقِيلَ: هي قَلْبِيَّةٌ، وَإِلَيْهِ نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ، فإِنَّهُ قالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُريدَ: لِنُرِيَ مُحَمَّدًا لِلْنَّاسِ آيَةً، أَيْ: يَكونُ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آيَةً فِي أَنْ يَصْنَعَ اللهُ بِبَشَرٍ هَذَا الصُّنْعَ، فَتَكونُ الرُؤْيَةُ قَلْبِيَّةً عَلَى هَذَا. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُري"، وَ "آياتِنا" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، وَ "نا" التَعظيم، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مَبنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ والتَقديرُ: لإِراءَتِنا إِيَّاهُ مِنْ آياتِنا، وهذا الجارُّ والمَجْرورُ مُتَعَلِّقٌ "أَسْرى".
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إِنَّ". و "هُوَ" ضَميرُ فَصْلٍ. و "السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" خَبَرانِ لـ "إِنَّ" مَرْفوعانِ، ويجوزُ أَنْ نُعرِبَ: "هو" مُبْتَدأ. وَ "السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" خَبَرانِ للمُبْتَدَأِ، والجملةُ خبرُ "إِنَّ" في محلِّ الرفعِ، وجُمْلَةُ {إنَّ} مُسْتَأْنَفةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرآَ العامَّةُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ ليلًا} وقَرَأَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليمان ـ رَضِي اللهُ عنْهُ: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسرى بِعَبْدِهِ من اللَّيْل من الْمَسْجِد الحرام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى". أخرَجَهُ ابْن جرير.
قرأ العامَّة: {لِنُرِيَهُ} بنونِ العظمة جَرْيًا عَلَى "بارَكْنا". وفيهما التفاتان: مِنَ الغَيْبة في قولِهِ: "الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ" إِلَى التَكَلُّمِ في "بارَكْنا" و "لِنُرِيَه"، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى الغَيْبَةِ في قولِهِ: "إِنَّهُ هوَ" إِنْ أَعَدْنا الضميرَ عَلى اللهِ تَعَالى، وهوَ الصحيحُ، فَفِي الكلامِ إذًا التفاتانِ. وقَرَأَ الحَسَنُ "لِيُرِيَهُ" بالياءِ مِنْ تَحْتُ، أَيْ: الله تَعالى، وعَلى هَذِهِ القِراءةِ يَكونُ في هَذِهِ الآيَةِ أَرْبَعَةُ التِفاتاتٍ: وَذَلكَ أَنَّهُ الْتَفَتَ أَوَّلًا مِنَ الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ: "الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ" إِلى التَكَلُّمِ في قولِهِ "بارَكْنا"، ثُمَّ الْتَفَتَ ثانيًا مِنَ التَكَلُّمِ في "بارَكْنا" إِلَى الغَيْبَةِ في "لِيُرِيَهُ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ بالياءِ مِنْ هَذِهِ الغَيْبَةِ إِلى التَكَلُّمِ في "آياتِنا"، ثُمَّ الْتَفَتَ رابعًا مِنْ هَذَا التَكَلُّمِ إِلى الغَيْبَةِ في قولِهِ "إِنَّهُ هوَ" عَلى الصَّحيحِ في الضَميرِ أَنَّهُ للهِ تعالى، وأَمَّا عَلَى قَوْلٍ نَقَلَهُ أَبو البقاءِ أَنَّ الضَميرَ في "إِنَّهُ هوَ" للنَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَجيءُ ذَلِكَ، ويَكون في قراءة العامَّةِ الْتَفاتٌ واحِدٌ، وَفي قراءةِ الحَسَنِ ثلاثةٌ. وَهَذا مَوْضِعٌ غَريبٌ، وأَكْثَرُ ما وَرَدَ الالْتِفاتُ فِيهِ ثلاثُ مَرَّاتٍ عَلَى مَا قالَ الزَمَخْشَريُّ في قولِ امْرِئِ القَيسِ:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ .......................... وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ .......................... كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأَرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي .......................... وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أَنَّ فِيها خَمْسَةَ الْتِفاتاتٍ لاحْتَاجَ فِي دَفْعِهِ إِلى دَلِيلٍ وَاضِحٍ، والخامِسُ: الالْتِفاتُ مِنْ "إنَّه هو" إِلَى التَكَلَّمِ في قولِهِ {وَآتَيْنَا مُوسَى} الآيةَ.