شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} الْمُرَادُ أَنَّهُ ـ عليْهِ السَّلامُ، كَانَ شَاكِرًا لِجَمِيعِ نِعَمِ اللهِ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً. وهذِهِ هيَ نُكْتَةُ اسْتِعْمَالِ جَمْعِ القِلَّةِ "أَنْعُمِ" هُنَا، مَعَ أَنَّ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ كَثِيرَةً عَلَى سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ومِنْ شُكرِ النِّعْمَةِ الإنفاقُ منها، واستعمالُها فيما يُرضي المنعِمَ بها، ومنْ شُكْرِ الخليل لِأَنْعُمِ مولاهُ، ما رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ، وَلَمْ يَجِدْ الضيفَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَخَّرَ غَدَاءَهُ منتظِرًا أَنْ يمُرَّ بِهِ أَحَدٌ يُشاركهُ طعامَهُ، فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، فَأَظْهَرُوا أَنَّ بِهِمْ عِلَّةَ الْجُذَامِ، فَقَالَ: الْآنَ يَجِبُ عَلَيَّ مُؤَاكَلَتُكُمْ، فَلَوْلَا عِزَّتُكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى لَمَا ابْتَلَاكُمْ بِهَذَا الْبَلَاءِ. ورويَ أَنَّهُ مرَّ بهِ يومًا رجُلٌ، فدعاهُ إلى مائدَتِهِ، فلمَّا مَدَّ الرجُلُ يَدَهُ إلى الطَعامِ، أَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اسمَ اللهِ عَلَى الطَعَامِ، فقالَ الرَّجُلُ أَنَا لا أُومِنُ بإلهِكَ الذي تَدَّعِي، فقالَ خليلُ الرَّحْمَنِ: كيفَ تأْكُلُ مِنْ رزقِهِ ولا تذكُرُ اسْمَهُ شُكْرانًا لِنِعْمَتِهِ؟. فكفَّ الرجُلُ وانصرفَ، فأرسلَ اللهُ جِبْريلَ معاتبًا الخليلَ، أَنْ يا إبراهيمُ: أَنَا خَلَقْتُهُ مُنْذُ كَذا وَكَذَا عَامًا وأَنَا أَرزُقُهُ، وهو لا يؤمِنُ بِي، وما مَلَلْتُهُ، أَوَ مللتَهُ أَنْتَ مِنْ وجْبَةٍ واحدةٍ تُطعمُهُ إِيَّاها؟. فخرجَ إبراهيمُ خلفَ الرجُلِ يدعوهُ أَنْ يعودَ، فاستغربَ الرجُلُ لهفةَ إبراهيمَ على عودتِهِ، فقالَ لَهُ: لقدْ عاتبني فيك رَبِّي بكذا وكذا، فاستحيا الرجُلُ وآمنَ بربِّ إبراهيمَ وشَارَكَهُ غَدَاءَهُ.
وفي هَذَا تَلْمِيحٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ الذينَ جَحَدُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِم، بِأَنْ جَعَلَ بَلَدَهمْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يأْتيها رِزْقُها مِنْ كلِّ جانبٍ، فكيفَ يَدَّعُون أَنَّهم عَلَى مِلِّةِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهُمْ يَكْفُرُنَ بِنِعْمَةَ اللهِ وَيَجْحَدُونَها، فإِبْراهِيمُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ كانَ شَاكِرًا لأَنْعُمِ اللهِ عَليْهِ.
قوْلُهُ: {اجْتَبَاهُ} هذهِ هِيَ الصِّفَةُ السَّادِسَةُ الَّتِي وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بها خليلَهَ إبراهيمَ ـ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَهِيَ أَنَّهُ مُجْتَبى، أَيْ: مُصْطَفَى لِلنُّبُوَّةِ. وَالِاجْتِبَاءُ هُوَ أَنْ تَأْخُذَ الشَّيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالاجْتِبَاءُ: بِوَزْنِ "افْتِعَالٍ" مِنْ جَبَيْتُ الشَّيْءَ إِذا جمعتُهُ، وَأَصْلُهُ جَمْعُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ، وَمنهُ سُمِّيَ: حَوْضُ الماءِ جَابِيَةً.
وقد كانَ اجْتِباءُ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنِ اخْتِبَارٍ وابْتِلاءٍ، كما قالَ تَعَالى في الآيةَ: 124، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}. أَيْ: اخْتَبَرَهُ بِبَعْضِ التَكالِيفِ، فَقامَ بها إبراهيمُ خيرَ قيامٍ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهِ وأَتَمِّهِ. وقدْ مَضَى هُنَالِكَ ذِكْرُ هذِهِ الكلماتِ والتفصيلُ في ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ المزيدَ.
قولُهُ: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: وزَادَهُ هِدَايَةً، كَمَا قَالَ في الآيةِ: 17، مِنْ سورةٍ محمَّدٍ ـ عليْهِ صَلَواتُ اللهُ وتحِيَّاتُهُ: {والذينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ}. فقد هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالى وتبليغِ رِسالتِهِ، وَتَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ ـ تَبَارَكَتْ أسْماؤهُ، وَتَنْفِيرِهم عَنِ الدِّينِ الْبَاطِلِ. ونَظِيرُ هذِهِ الآيةِ الكريمةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآيةَ: 153.
قولُهُ تَعَالى: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ} شَاكِرًا: خبرٌ ثَالِثٌ للفِعْلِ الناقِصِ "كانَ"، أَوْ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِـ {أُمَّةً} مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها مَنْصُوبَةٌ مِثْلها، أَوْ حَالًا مِنْ أَحَدِ الضَمِيريْنِ فِي {قانِتًا} أَوْ {حَنِيفًا} مِنَ الآيةِ التي قبلَها. وَ "لِأَنْعُمِهِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَاكِرًا"، أَوْ بِـ "اجْتَبَاهُ"، وَ "أَنْعُمِ" مُجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضَافٌ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "اجْتَبَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقدِّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها عَلَى الأَلِفِ وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تَعَالَى. وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وجُمْلَةُ "اجْتَبَاهُ" الفعليَّةُ هَذِهِ إِمَّا حَالٌ أُخرى في مَحَلٍّ النَّصْبِ، وَإِمَّا خَبَرٌ آخَرُ لـ "كانَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ. و "هَدَاهُ" مثلُ "اجْتَبَاهُ" مَفْعُولٌ بِهِ، مَعْطُوفٌ عَليهِ. و "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "هَدَى" أَوْ بِـ "اجْتَبَى" عَلَى سَبيلِ التَنَازُعِ، و "صِرَاطٍ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مُسْتَقِيمٍ" صِفَةٌ لـ "صِرَاطٍ" منصوبَةٌ مِثْلهُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلةِ "اجْتَبَاهُ" عَلى كَوْنِها حالًا أَو خبرًا للفعلِ الناقِصِ {كان}.