فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الْأَمْرُ هُنَا لِلِامْتِنَانِ. وَحَرْفُ التَّفْرِيعِ (ف) عَلَيْهِ لأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ مُقَدِّمَةٌ لِلْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. فَشُكْرُ نِعْمَةَ اللهِ وَعدمُ كُفْرِهَا هوَ الْمُرادُ، وإِلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمَضْرُوبَةِ مَثَلًا. والْحَلَالُ: هو الْمَأْذُونُ فِيهِ شَرْعًا. وَالطَّيِّبُ: مَا طابَ لِلنَّاسِ طَعْمُهُ ونَفَعَهُمْ التَقَوُّتُ بِهِ. والمَعْنَى: لَقَدْ عَرَفْتُمْ حَالَ الذينَ بَدَّلوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا ومَا حَلَّ بِهم، وَرَأَيْتُمْ كَيْفَ أَذَاقَهُمُ اللهُ تَعَالى لِبَاسَ الجُوع ِوالخَوْفِ انْتِقامًا مِنْهُمْ وَتَأْديبًا لهم، فَاحْذَرُوا أَنْ تَسيرُوا عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، وتَقْتَفُوا آثارهم، وتَسِيروا عَلَى نَهْجِهمْ فَيَحِلّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَيُصيبُكم مَا أَصَابَهم، وَكُلُوا أَيُّها المؤمنونَ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ الذي رَزَقَكُمُ اللهُ ـ تَعَالى، إِيَّاهُ، وَذَرُوا مَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَبَائِثِ. قيلَ المقصودُ بالحَلالِ الطَيَّبِ هُنَا الغَنَائِمُ، وقِيلَ: لَعَلَّ هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى أَهْلِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ إِذْ أَصْبَحُوا آمِنِينَ عِنْدَ مَلِكٍ عَادِلٍ فِي بَلَدٍ يَجِدُونَ فِيهِ رِزْقًا حَلَالًا وَهُوَ مَا يُضَافُونَ بِهِ وَمَا يكتسبونه بِكَدِّهِمْ، أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ حَالَ الْقَرْيَةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا أَوِ الْمُعَرَّضِ بِهَا فَاشْكُرُوا اللهَ الَّذِي نَجَّاكُمْ مِنْ مِثْلِ مَا أَصَابَ الْقَرْيَةَ، فَاشْكُرُوا اللهَ وَلَا تَكْفُرُوهُ كَمَا كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ. فَقَوله: "وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ" مُقَابِلٌ لقَوْلِهِ فِي الْمَثَلِ مِنَ الآيةِ: 112، السابقةِ: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ}، والرأْيُ أَنَّ الآيَةَ عامَّةٌ فِي جَوازِ الأَكْلِ مِنْ كُلِّ طَيِّبٍ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ} واشْكُروا اللهَ المُنْعِمَ المَعْبُودَ عَلى مَا أَسْبَغَهُ عَلَيْكُمْ مِنْ جَليلِ نِعَمِهِ، بِفَضْلِهِ وكَرَمِهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلاَ تُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ أَحَدًا، لِتَدُومَ لَكُمْ هَذِهِ النِّعَمُ، فإِنَّ عَدَمَ الشُكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ مُؤْذِنٌ بِزَوَالِها، كما أَنَّ الشُّكرَ سببٌ في زيادَتِها وبقائها، لقولِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الآيةَ: 7. وَالشُكرُ عَلى النِّعْمَةِ اسْتِعْمالُها فِيما خُلِقَتْ لَهُ، ومُقابَلَتُها بِأَلْوانِ الطاعَةِ لِمَنْ أَنعَمَ بها. فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِأَكْلِ مَا أَحَلَّ لَهُمْ، وشُكْرِ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ مَا زَجَرهمْ عَنِ الكُفْرِ، وَهَدَّدَهم عَلَيْهِ، بِمَا ذَكَرَ مِنَ التَمْثيلِ وَالعَذَابِ الذي حَلَّ بِهِمْ صَدًا لَهُمْ عَنْ صَنِيعِ أَهْلِ الجاهِلِيَّةِ وَمَذَاهِبِهِم الفاسِدَةِ.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُدونَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، حَقَّ عِبَادَتِهِ، وتُطِيعُونَهُ في كُلِّ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ حَقَّ طاعَتِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ، لأَنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ مُقدَّرٍ، والتَقديرُ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَيُّها المُؤْمِنُونَ حَالَ أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ النَّصِيحَةِ لَكُمْ فأَقولُ لَكُمْ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ، و "كُلُوا" فِعْلُ أَمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ، والألِفُ للتَّفْريقِ. و "مِمَّا" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كُلُوا"، و "مَّا" موصولةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، أَوْ نَكِرةٌ موصوفةٌ. وهَذِهِ الجُملةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "رَزَقَكُمُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحْ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "اللهُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ إِذا أُعربتْ "ما" مَوْصُولَةً، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ الجَرِّ إِذا أُعْرِبتْ "ما" نَكِرةً مَوْصُوفةً، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: مِمَّا رَزَقَكُمُوهُ اللهُ حلالًا طيِّبًا، وَهوَ المَفْعُولُ الثاني لِـ "رَزَقَ" و "حَلَالًا" نصبٌ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المَحْذُوفِ، و "طَيِّبًا" صِفَةٌ لـ "حَلَالًا" مَنْصُوبَةٌ مِثْلهَا. وَيجوزُ أنْ نُعْرِبَ "حَلَالًا" مَفْعولًا مُطْلَقًا نائبًا عَنْ مَصْدَرِه، أَيْ: أَكْلًا حَلالًا، وَمِثْلُهُ "طيّبًا". وَيَجُوزُ أَنْ يُعرَبَ مَفْعُولًا بِهِ و "طيِّبًا" صفتُهُ، أَيْ: طَعَامًا حَلالًا طيِّبًا.
قولُهُ: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ} الوَاوُ: للعطفِ، و "اشْكُرُوا" مثل "كلوا". و "نِعْمَتَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ. ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. والجملةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كُلُوا" على كَوْنِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إِنْ: شَرْطِيَّةٌ جازِمةٌ. و "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وتَاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كان"، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "إِيَّاهُ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ مُقَدَّمٌ لِمَا بَعْدَهُ، و "تَعْبُدُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ. وهذهِ الجُمْلَةُ الفعليَّةُ خبرُ "كان" في محلِّ النَّصْبِ، وَجَوابُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدونَ فَاشْكُروا لَهُ سُبْحَانَهُ، وجُمْلَةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.