وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} بعدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الْمَثَلَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ، ذَكَرَ هُنَا الْمُمَثَّلَ، وهُمْ قُرَيْشٌ أَهْلُ مَكَّةَ المُكَرَّمةَ. وَبَيَّنَ ـ سُبْحَانَهُ، أَنَّ الرَّسُولَ الذي أَرْسَلَهُ إِليهِمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْهم، يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِه، نَشَأَ وتَرَبَّى فِيهم، وعَاشَ بَيْنَهم أَربعينَ عامًا، عَاشَروهُ خِلالَها وَعَامَلُوهُ وجرَّبوهُ وَخَبَروهُ، فَهُمْ يَعْرِفونَ عَنْهُ كُلَّ دَقِيقَةٍ وجَلِيلَةٍ، يَعْرِفُونَ مِنْهُ اتِّصافَهُ بِكُلِّ مَكارِمِ الأَخْلاقِ، لا سِيَّما منها الأَمانةَ والصِدْقَ، حَتَّى لَقَّبُوهُ بالصَّادِقِ الأَمِينِ، لِمَا خَبَرُوا مِنْ أَمانَتِهِ وصِدْقِهِ، وَهوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومَعَ ذَلِكَ فإِنَّهم كَذَّبُوهُ فِيمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ، وَوَقَفُوا فِي وَجْهِ رِسالَتِهِ، وعادُوهُ، وحاربوا دينَهُ، وعذَّبوا أَصْحابَهِ، وقاتَلوهم.
قولُهُ: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ المُسْتَأْصِلُ لِشَأْفَتِهم، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْجُوعَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِقولِهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلِكَ في الآيةِ التي تَلِيها: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ الله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْجُوعَ الذي حلَّ بِكم وَذُقْتُمْ مَرارَةَ طَعْمِهِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، فَتُوبُوا إلى ربِّكم، وأَقلِعوا عن كفركم باللهِ تَعَالى ومَعْصِيَتِكم لَهُ حَتَّى تَأْكُلُوا مِنْ نِعَمِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ. ولهذا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَكُلُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ يُرِيدُ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ جَهِدُوا وَقَالُوا عَادَيْتَ الرِّجَالَ فَمَا بَالُ الصِّبْيَانِ والنِّسْوَةِ. وَكَانَتِ الْمِيرَةُ قَدْ قُطِعَتْ عَنْهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهم، فَحُمِلَ إِلَيْهِمُ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّبًا}، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ في الآية: 115: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ}، يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا آمَنْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْكُفْرَ فَكُلُوا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَاتْرُكُوا الْخَبَائِثَ وَهِيَ المَيْتَةُ والدَمُ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
قولُهُ: {وَهُمْ ظالِمُونَ} أَيْ: حَالَ كونِهم ظالِمينَ بِما هُمْ مُقيمونَ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرانِ نِعَمِ اللهِ تَعَالى وتَكذيبِ رَسُولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، غيْرَ مُقْلِعينَ عَنْهُ بِما ذاقوا مِنْ مُقَدِّماتٍ زاجِرَةٍ لو كانوا لأَمْرِهم عَاقلينَ، وبما نَزَلَ فيهم مُتَّعِظِينَ، مُعْتَبِرينَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، واللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَّمِ. و "قَدْ" حَرْفٌ للتَحْقيقِ. و "جَاءَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌ عَلى الفَتْحِ، و "هُم" ضميرٌ متصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النصْبِ مفعولٌ بِهِ. و "رَسُولٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. وَ "مِنْهُمْ" مِنْ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "رَسُولٌ"، و "هم" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذوفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ أَيْضًا. وَ "فَكَذَّبُوهُ" الفاءُ: حرفُ عَطفٍ للتَّعْقيبِ. وَ "كَذَّبُوهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَفٍريقِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جاءَ" على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} الفَاءُ: حَرْفٌ للعَطْفِ والتَعْقِيبِ، و "أَخَذَهُمُ" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، و "هم" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "الْعَذَابُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كَذَّبوهُ" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَهُمْ ظَالِمُونَ" الواوُ: حاليَّةٌ، و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "ظَالِمُونَ" خَبَرُ المبتدأِ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضميرِ المَفعولِ في "أَخَذَهُمُ".