ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
(107)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} الإِشارةُ بِـ "ذَلِكَ" إِلى مَا ذُكِرَ مِنَ الكُفْرِ بَعْدَ الإِيمانِ، أَوْ إِلى مَا تَوَعَّدَهمْ اللهُ بِهِ مِنَ الغَضَبِ وَالعَذَابِ؛ بِسَبَبِ اخْتِيارِهِمُ الحَيَاةَ الدُنْيا وما فيها مِنْ نعيمٍ زائلٍ، وإيثارِهِمْ إيَّاها عَلى الحَيَاةِ الآخِرَةِ وما وُعِدوا فيها مِنْ نعيمٍ مُقيمٍ. وَقَدْ وُحِّدَ الضميرُ في الإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِـ "ذَلِكَ" كَما وُحِّدَ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} الآيةَ: 68، وَكَمَا وُحِّدَ في "كَأَنَّهُ" مِنْ قَوْلِ الشاعرِ الرَّاجِزِ رُؤْبةَ بْنِ العَجَّاجِ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ............... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
و "اسْتَحَبُّوا" مُبَالَغَةٌ فِي (أَحَبُّوا)، مِثْلَ: (اسْتَأْخَرَ) وَ (اسْتَكَانَ). وَضُمِّنَ "اسْتَحَبُّوا" مَعْنَى (فَضَّلُوا) ولِذَلِكَ فقد عُدِّيَ بِحَرْفِ الجرِّ "عَلَى".
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} وكانَ ذَلِكَ الوَعيدُ بِغَضَبِ اللهِ تَعَالى، والعَذَابِ الأَلِيمِ الذي تَوَعَّدَهم اللهُ بهِ بِسَبَبِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لا يَهْدي مَنْ كَفَرَ بهِ وكَذَّبَ رَسُولَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، إِلَى ما يُبعِدُهُ عَنْ غضَبِ اللهِ ويُخلِّصُهُ مِنْ عَذَابِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} ذلك: ذه: اسْمُ إِشَارةٍ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالابْتِداءِ، اللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. وَ "بِأَنَّهُمُ" الباءُ: حَرْفُ جرٍّ للسبَبيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ. و "أنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُها، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وجُمْلَةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالباءِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَةُ مِنَ المُبتدَأِ وخَبَرِهِ جملةٌ مُسْتأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "اسْتَحَبُّوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ والألفُ للتفريقِ. و "الحياةَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. و "الدُنيا" صفتُها منصوبةٌ مثلها، وعلامةُ النَّصْبِ مقدَّرةٌ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها على الأَلِفِ. وَ "عَلى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَحَبُّوا". وَ "الآخِرَةِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجملةُ الفعليَّةُ هذِهِ خبرُ "أَنَّ" في محلِّ الرَّفْعِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ، وَ "أَنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُ "إنَّ" منصوبٌ بِهِ. و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها. و "يَهْدِي" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرةُ على آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعود على "اللهُ" تَعَالى. و "الْقَوْمَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "الْكَافِرِينَ" صِفَةٌ لِـ "الْقَوْمَ" منصوبةٌ مِثلهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعلِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ". وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَنَّ" الأَولَى.