قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
(102)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أَيْ: قُلْ يا رَسُولَ اللهِ، بَلْ نَزَّلَ القُرآنَ الكَريمَ كُلَّهُ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، مِنْ عندِ اللهِ تَعَالى وبِأَمْرٍ منْهِ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَ "الرُوحُ" الْمَلَاكُ، لِقَولهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مَرْيمَ: {فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا} الآية: 17، أَيْ مَلَكًا منْ مَلَائِكَتِنَا. والقَداسَةُ: الطَهَارةُ، فَـ "رُوحُ الْقُدُسِ" أَيْ الرُّوحُ المُطَهَّرُ مِنَ الأَدْناسِ البَشَريَّةِ، والمُرادُ بِهِ مَعْنَياهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ الَّذِي هُوَ الْفَضْلُ وَجَلَالَةُ الْقَدْرِ. وفي قوْلِهِ "رَبِّكَ" الْتِفاتٌ إِلى الخِطابِ تَأْنيسٌ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا فِي الرُّبوبِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الْعِنَايَةِ وَالتَّدْبِيرِ. وإِضافةُ الرُّوحِ إِلى القُدْسِ، كإِضافَةِ حاتمٍ إِلى الجُودِ حَيْثُ يُقالُ: حاتمُ الجُودِ للمُبَالَغَةِ. فقد كانَ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يَنْزِلُ بالوَحْيِ مِنَ اللهِ تعالى عَلَى رَسولِهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، معظَمَ الأَوْقاتِ، لكنَّهُ لم يَكُنِ الوَاسِطَةَ الوَحِيدَةَ بيْنَ اللهِ ورسولِهِ، فقد رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وُكِّلَ إِسْرَافِيلُ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَةِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ. وَتقدم فِي تَفسيرِ سُورَةِ الحَمْدِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ بِسُورَةِ "الْحَمْدِ" مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ قَطُّ.
وهذا أَمَرٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ، لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَاهِيَّةَ الْقُرْآنِ الكريمِ رَدًّا عَلى مَا وَرَدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ قولِهِم لَهُ: {إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ}.
قولُهُ: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} بَيَانٌ لِعِلَّةٍ مِنْ عِلَلِ تَبْدِيلِ آيَةٍ مَكَانَ أُخرَى، وَهِيَ تَثْبِيتُ الَّذِينِ آمَنُوا، حَيْثُ يَفْهَمُونَ مَحْمَلَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آياتِ الذِكْرِ الحَكيمِ، فَيَهْتَدونَ بِهَا، وَتَكُونُ لَهُمْ بِذَلِكَ آيَاتُ الْبُشْرَى بِشَارَةً لَهُمْ، فِيمَا تَكونُ آيَاتُ الْإِنْذَارِ مَحْمُولَةً عَلَى إِنْذَارِ الْكَفَرةِ بِمَا يَنْتَظِرُهم مِنْ أَسْوَأِ الحِسَابِ وأَشِّدِ العَذابِ. وَالْمُرَادُ بِـ "الْمُسْلِمِينَ" {الَّذِينَ آمَنُوا} المذكورونَ في الآيةِ: 99، السابقةِ، وَكانَ مَقْتَضَى الظَاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هُدًى وبُشْرى لَهُمْ لأنَّ الحديثَ ما زالَ عَنْهُمْ، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَظْهَرَ في مَقامِ الإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفٍ آخَرَ شَرِيفٍ لَهُمْ.
قولُهُ تَعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "نَزَّلَهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ. و "رُوحُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "الْقُدُسِ" مجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَزَّلَ"، أَوْ بِحالٍ مِنْ مَفْعُولِ "نَزَّلَهُ". وَ "رَبِّكَ" مجرورٌ بجرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "بِالْحَقِّ" جارٌّ ومجرورٌ متعَلِّقٌ بِما تعلَّقَ بِهِ الجارُّ قبلَهَ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} لِيُثَبِّتَ: اللامُ هي لامُ "كي"، و "يُثَبِّتَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ جَوازًا بَعْدَ لامِ كَيْ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "رُوحُ الْقُدُسِ". و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفَتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ. و "آمنوا" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتفريق. وَالجُمْلَةُ صلةُ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وجملةُ "يُثَبِّتَ" فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ باللامِ، والتَقْديرُ: لِتَثْبِيتِهِ الذينَ آمَنُوا، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ {نَزَّلَ}. و "هُدًى وَبُشْرَى" مَعْطُوفانِ عَلَى مَحَلِّ "لِيُثَبِّتَ" أَيْ: تَثْبِيتًا وَهِدَايَةً وَبِشَارَةً، أَوْ مَعْطوفانِ عَلَى لَفْظِهِ بِاعْتِبارِ المُؤَوَّلِ؛ أَيْ: لِتَثْبيتِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ وَبِشارَتِهمْ، و "لِلْمُسْلِمِينَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ تنازَعَ في مُتَعَلَّقِهِ "بُشْرَى" وَ "هُدًى".