إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} مَعْنَى "يَتَوَلَّوْنَهُ" يَتَّخِذُونَهُ وَلِيًّا لَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّهم غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَهُمْ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ. والسُّلْطَانُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ، وَهُوَ التَّسَلُّطُ وَالتَّصَرُّفُ الْمَكِينُ. وهوَ مَقْصورٌ عَلى الذينَ يَتَوَلَّونَهُ، وهوَ مَا أَفادتْهُ أَداةُ الحَصْرِ "إنَّما" وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ "إِنَّما" قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِقَرِينَةِ الْمُقَابلَة، أَيْ دُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَحَصَلَ بِهِ تَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْرِيرِ مَضْمُونِهَا، فَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَصْرِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَهْمَلُوا التَّوَكُّلَ، وَالَّذِينَ انْخَدَعُوا لِبَعْضِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فريقٌ آخَرُ مِنَ الذينَ للشَيْطانِ سُلْطانٌ عَلَيْهمْ وُهُم الذينَ جعلوا الشَيْطانَ شَريكًا للهِ بطاعَتِهمْ لَهُ فصَارُوا مُشْرِكِينَ بِسَبَبِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "بِهِ" أَيْ بِاللهِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ والقُتبيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يَرْجِعُ الضَميرُ فِي "بِهِ" إِلَى الشَّيْطَانِ. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ. يُقَالُ: كَفَرْتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِهَا. وَصَارَ فُلَانٌ بِكَ عَالِمًا، أَيْ مِنْ أَجْلِكَ. أَيْ والذي تَوَلَّوا الشَيْطانَ مشركونَ بِاللهِ. وَقَدْ أُعِيدَ الاسْمُ الْمَوْصُولُ هُنَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ لِلشَّيْطَانِ أَقْوَى. وَقَالَ "مُشْرِكُونَ" فعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ تَوَلِّيهم للشَيْطانِ، أَيِ الَّذِينَ يُجَدِّدُونَ تَوَلِّيهِ، وذَلكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّمَا تَوَلَّوْهُ بِالْمَيْلِ إِلَى طَاعَتِهِ، كلَّما تَمَكَّنَ مِنْهُمْ سُلْطَانُهُ أَكْثَرَ.
وَأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ" قَالَ: حُجَّتُهُ عَلى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ. و "الَّذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكونَ" قَالَ: يَعْدِلونَهُ بِرَبِّ الْعَالَمينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ" يَقُولُ: سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ عَلى مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانَ وَعَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} إِنَّمَا: أَداةٌ للحَصْرِ. و "سُلْطَانُهُ" مَرْفوعٌ بِالابْتِداءِ، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ. وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجرِّ. والجُملةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "يَتَوَلَّوْنَهُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ. والهاءُ: ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَالَّذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكونَ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "الَّذينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ عَطْفًا عَلَى المَوْصُولِ الأَوَّلِ، و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ في محلِّ الرفعِ بالابْتِدَاءِ. و "بِهِ" الْبَاءُ حَرْفُ جَرٍّ لِلسَّبَبِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ. و "مُشْرِكُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.