إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(99)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} تَعْلِيلٌ للأَمْرِ في الآيةِ التي قبلَها بِالاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنَ الشَيطانِ الرَّجيمِ، أَيْ لَا سُلْطانَ لَلشَيْطَانِ عَلَى الذينَ آمَنُوا بربِّهم ودَخَلُوا في حِمَاهُ، وَفَوَّضُوا أَمْرَهمْ إِليْهِ، وتوكَّلوا عَلَيْهِ، أَنْ يُغوِيهُمْ بِالكُفرِ، فإِنَّ وَسْوَسَةَ الشَيْطَانِ لا تُؤَثِّر فيهم، ودَعْوَتَهُ غَيْرُ مُسْتَجَابَةٍ عِنْدَهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانٍ الثَّوْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذين آمَنُوا" قَالَ: لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يَغْفَرُ لَهُم. وَصِيغَةُ المَاضِي في الصِلَةِ الأُولَى "آمَنُوا" للتَّحَقُّقِ، وَصِيغَةُ الاسْتِقْبالِ في الصِّلَةِ الثانِيَةِ "يَتَوَكَّلونَ" لإِفادَةِ الاسْتِمْرارِ والتَجَدُّدِ فِي التَعَرُّضِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَجُمْلَةُ "وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْمَوْصُولِ. فَنَفْيُ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ مَشْرُوطٌ بِالْأَمْرَيْنِ: الْإِيمَانُ، وَالتَّوَكُّلُ. وَهَذِهِ عِدَةٌ كَريمَةٌ مِنْهُ ـ سُبْحانهُ وَتَعَالى، بإِعاذَةِ المُتَوَكِّلِينَ عليْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: المَعْنَى لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالى صَرَفَ سُلْطَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَالَ إِبْلِيسُ الَلعَينَ مُخَاطِبًا مَوْلاهُ العَظِيمَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} الآيَتَانِ: (39 و 40) مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} الآيَةَ: 42، مِنَ السُورَةِ ذَاتِها. وهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، فَقَدْ أَغْوَى اللَّعِينُ آدَمَ وَحَوَّاءَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، بِسُلْطَانِهِ، وَشَوَّشَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ بِالوَسْوَسَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: اللهُ خَلَقَكَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟. وأَشْبَاهِهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إِنَّهُ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، والهَاءُ: ضَمِيرُ الشَأْنِ، أَوْ عائدٌ للشَيْطانِ، مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إِنَّ". وَ "لَيْسَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. وَ "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ" مُقَدَّمًا عَلَى اسْمِهِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "سُلْطَانٌ" اسْمُ "إنَّ" مُؤَخَّرٌ. وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سُلْطَانٌ" وَجَازَ التَعَلُّقُ بِهِ لأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسَلُّطِ، وَجُملَةُ "لَيْسَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُملةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسوقةٌ لِتَعْلِيلِ جُمْلَةٍ مَحْذوفَةٍ هِيَ جَوَابُ الأَمْرِ، والتَقْدِيرُ: فإِنِ اسْتَعَذْتَ كُفِيتَ شَرَّهُ. وَ "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجَمَاعَةِ، وَواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، والأَلِفُ فارِقَةٌ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "عَلَى" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ. وَ "رَبِّهِمْ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْفِعْلِ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ. و "يَتَوَكَّلُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ الصِلَةِ السَّابِقَةِ على كونِها صِلَةَ الاسْمِ المَوْصُولِ فَلا مَحَلَّ مِنَ الإِعْرابِ.