وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} العهدُ الحَلِفُ، فقد رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ إِذَا قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللهِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَمِينٌ. والْعَهْدُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّلَاحُ فِي خِلَافِهِ، لِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ، قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ)). وَ "إِذا" لِلْظَّرْفِيَّةِ المُجَرَّدَةِ فقطْ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا كانُوا قَدْ عَاهَدُوا اللهَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، والْإِتْيَانُ بِاسْمِ الزَّمَانِ "إذا" لِمجرَّدِ تَأْكِيدِ الْوَفَاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَاهَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: "وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا". أَيْ حَافِظُوا عَلَى حُدودِ مَا عَاهَدْتُمُ اللهَ عَلَيْهِ وما بايَعْتُمْ عَلَيْهِ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْعَةٌ للهِ ـ سُبْحَانَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الفتْحِ: {إِنَّ الذينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ} الآية: 10. وَكَرَّرَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْأَنْعَامِ: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} الْآيَةَ: 152، وَكقَوْلِهِ تعالى مِنْ سورةِ الْإِسْرَاءِ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} الآية: 34، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ العزيزِ أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ يَسْتَوْجِبُ اللَّعْنَ، فقالَ تعالى منْ سُورةِ المائدَةِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} الْآيَةَ: 13. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ إِنَّمَا يَضُرُّ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِهِ يُؤْتِيهِ اللهُ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} الآية: 10.
وَظَاهِرُ هذه الْآيَةِ الكريمة أَنَّها شَامِلةٌ لِجَمِيعِ الْعُهُودِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفِيمَا بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ النَّاسِ. قالَ المُفَسِّرونَ وَأَهْلُ العِلْمِ: العَهْدُ الذي يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ فَهُوَ الذي يَحْسُنُ فِعْلُهُ، فإِذا عَاهَدَ يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ، وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، في هَذِهِ الآيَةِ: وَالوَعْدُ مِنَ العَهْدِ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مهْرانَ: مَنْ عَاهَدْتَهُ فَفِ لَهُ بِعَهْدِهِ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا؛ فَإِنَّما العَهْدُ للهِ.
قولُهُ: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمانَ الَّتي تَحْلِفونَ بِهَا عِنْدَ المُعَاهَدَةِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا حَسْبَمَا هوَ المَعْهودُ فِي أَثْنَاءِ أَخْذِ العُهُودِ وإبرامِ العُقُودِ، ولا يَخْتَصُّ النهيُ بِالتَوْكِيدِ وليسَ مُقَيَّدًا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" قَالَ: تَغْليظِها فِي الْحَلِفِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" يَقُول: بَعْدَ تَشْديدِها وَتَغْلِيظِها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْله: "وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" يَعْنِي بَعْدَ تَغْلِيظِها وَتَشْديدِها. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَنَقْضُ الْأَيْمَانِ: معناهُ إِبْطَالُ مَا كَانَتْ الأَيْمانُ لِأَجْلِهِ. فَالنَّقْضُ إِبْطَالُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ولَيسَ إِبْطَال الْقَسَمِ، فَجَعَلَ إِبْطَالَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَقْضًا لِلْيَمِينِ فقَالَ: "وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ" تَهْوِيلًا عليهِمْ، وَتَغْلِيظًا لِلنَّقْضِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُرْمَةِ الْيَمِينِ. و "بَعْدَ تَوْكِيدِها" زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ بِالْبَعْدِيَّةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَيْمَانٌ مَعْلُومَةٌ، وَهِيَ أَيْمَانُ الْعَهْدِ وَالْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ فِيهَا بَعْدِيَّةٌ. فإنَّ "بَعْدِ" هُنَا بِمَعْنَى (مَعَ)، إِذِ الْبَعْدِيَّةُ وَالْمَعِيَّةُ أَثَرُهُمَا وَاحِدٌ هُنَا، وَهُوَ حُصُولُ تَوْثِيقِ الْأَيْمَانِ وَتَوْكِيدِهَا، كَما هو في قَوْلِ الشَّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ:
بَنِي عَمِّنَا لَا تَذكرُوا الشّعْر بعد مَا ....... دَفَنْتُمْ بِصَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ الْقَوَافِيَا
وكلمةُ الشَّمَيْذَرِ: تَعْني الخفيفَ السَّريعَ في سَيْرِهِ أَو جَرْيَهِ مِنَ الإبِلِ وغيرِها، والنَشِطَ المُنْدَفِعَ بقوةٍ مِنَ الفِتْيانِ. يَقُولُ الشاعرُ: لَا تَذْكُرُوا أَنَّكُمْ شُعَرَاءُ، وَأَنَّ لَكُمْ شِعْرًا، أَوْ لَا تَنْطِقُوا بِشِعْرٍ مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ فِي وَقْعَةِ صَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ، وَهَذَا كِنَايَة عَنْ تَرْكِ قَوْلِ الشِّعْرِ لِأَنَّ أَهَمَّ أَغْرَاضِ قَوْلِهِ قَدْ تَعَطَّلَ فِيهِمْ. وَكما هي في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَة الحُجُرَاتِ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ} الآيَة: 11. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} الآية: 27. فقد أَمَرَ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِبَادَهُ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدُوا. وتَوْكيدُ الأَيْمانِ تَغْلِيظُها، قالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَعْنِي تَغْلِيظَ الحَلِفِ. تَفْسيرُ مُجاهِدٍ: (ص: 424)، بِنَحْوِهِ، وأَخْرَجَهُ الطَبَرِيُّ: (14/164)، بِنَحْوِهِ مِنْ طَريقَيْنِ، وَوَرَدَ فِي كتابِ (مَعَانِي القُرْآنِ) لأَبي جَعْفَر النَحَّاس: (4/101)، بِنَحْوِهِ. وَ (الدُرُّ المَنْثُورُ) للسُيُوطِيِّ: (4/242)، وزَادَ نِسْبَتَهُ إِلَى ابْنِ المُنْذِرِ، وابْنِ أَبي حاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: بَعْدَ تَشْديدِهَا، وإِنَّما قالَ: بَعْدَ تَوْكِيدِها؛ فَرْقًا بَيْنَ الأَيْمانِ المُؤَكَّدَةِ بِالعَزْمِ والعَقْدِ، وبَيْنَ لَغْوِ اليَمِينِ. قالَ أَبُو إِسْحاقَ: يُقالُ: وَكَّدْتُ وأَكَّدْتُ لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، وَالأَصْلُ الوَاوُ، وَالهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْها. أَخْرَجَهُ الطَبَرِيُّ: (14/164)، بِلَفْظِهِ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَوْرَدَهُ السُيُوطِيُّ في (الدُرِّ المَنْثورِ): (4/242)، وزَادَ نِسْبَتَهُ إِلَى عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وابْنِ المُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فإنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَوْضَحَ اللهُ تَعَالى لَلمُؤمنينَ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى كَمَالٍ وَخَيْرٍ بِذَلِكَ الْكِتَابِ الكريمِ الْمُبَيِّنِ لِكُلِّ شَيْءٍ. لَا جَرَمَ ذَكَّرَهُمُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدُوا الله تعالى عَلَيْهِ عِنْد مَا أَسْلَمُوا، وَهُوَ مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ نَبِيَّهُ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ، ومِمَّا جاء فِي هذَهِ البَيْعَةِ: أَنْ لَا يَعْصُوهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَقَدْ كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَقْتِ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ. وَتَكَرَّرَتِ الْبَيْعَةُ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى أُمُورٍ أُخْرَى، مِثْلِ النُّصْرَةِ الَّتِي بَايَعَ عَلَيْهَا الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَمِثْلِ بَيْعَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.
قولُهُ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ تَعَالى شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ورَقِيبًا وَكَفِيلًا، والكَفِيلُ مُراعٍ لِحَالِ المَكْفُولِ بِهِ مُحَافِظٌ عَلَيْهِ. أَيْ: لا تَنْقُضُوهَا، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ كَفِيلًا عَلَيْكُمْ بِالوفاءِ بها، ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ باللهِ تَعَالَى فَكأَنَّهُ أَكْفَلَ اللهَ تَعَالى بِالوَفَاءِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا" قَالَ: وَكيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا" يَعْنِي فِي الْعَهْد شَهِيدًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تَقُومونَ بِهِ مِنْ نَقْضِ الأَيْمانِ والعُهُودِ ولَسَوفَ يُجازيكمْ عَلَى مَا تَفْعَلونَ.
وَالْخِطَابُ في هَذِهِ الآيةِ المُبَارَكَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى عَهْدِهِمْ معَ اللهِ تعالى بِحِفْظِ شَرِيعَتِهِ التي بَلَّغَهُمْ إِيَّاهَا رَسُولُهُ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ.
فقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الذينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُمُ اللهُ بالوفاءِ بِها. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، عَنْ مَزِيدَةَ بْنِ جابِرٍ العَصْرِيِّ العَبْدِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عَاهَدْتُمْ" قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ مَنْ أَسْلَمَ بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" فَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ قِلَّةُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَنْقُضُوا الْبَيْعَةَ الَّتِي بايَعْتُمْ عَلَى الإِسْلامِ. الدُرُّ المَنْثورُ في التَفْسيرِ بالمَأْسورِ) للإمامِ السُيُوطِيِّ: (5/161)، و (زاد المَسير منْ علومِ التفسيرِ) لابْنِ الجَوْزِي: (4/484). وقال مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: نَزَلتْ في حِلْفِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، عَنْ مَزيدَةَ بْنِ جابرٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ. (الدُرُّ المَنْثورُ في التَفْسيرِ بالمَأْسورِ) للإمامِ السُيُوطِيِّ: (5/161)، و (زاد المَسير منْ علومِ التفسيرِ) لابْنِ الجَوْزي: (4/484).
قولُهُ تَعَالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الوَاوُ: استِئْنافيَّةٌ، و "أَوْفُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، والإلِفُ الفارِقةُ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "بِعَهْدِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِـ "أَوْفُوا"، و "عَهْدِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، ولفظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزمانِ مُجَرَّدٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ مُتَعَلِّقٌ بَـ "أَوْفُوا". و "عَاهَدْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، والتاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "إِذَا" إِلَيْها.
قولُهُ: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الوَاوُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "لَا" ناهيةٌ جازمةٌ. وَ "تَنْقُضُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" الناهِيَةِ الجازِمةِ، وعَلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّ مُضارِعَهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ هي الفارِقَةُ. وَ "الْأَيْمَانَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطُوفةٌ عَلَى "أَوْفُوا"، عَلَى كَوْنِها جملةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. وَ "بَعْدَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزَمَانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "لا تَنْقُضُوا"، وَهوَ مُضَافٌ، و "تَوْكِيدِهَا" مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِمَفْعُولِهِ، مَجْرُورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُضافٌ أَيضًا، وَ "هَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "تَوْكِيد": مَصْدَرُ "وَكَّدَ، يُوَكِّدُ" بالوَاوِ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَىَ هيَ: "أَكَّدَ، يُؤَكِّدُ" (بالهَمْزِ)، وهَذَا كَقَوْلِهم: "وَرَّخْتُ الكِتَابَ"، وَ "أَرَّخْتُهُ"، وَلَيْسَتِ الهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ كَمَا زَعَمَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَجَّاجُ؛ لأَنَّ الاسْتِعْمالَيْنِ فِي المَادَّتَيْنِ مُتَسَاوِيانِ، فَلَيْسَ ادِّعاءُ كَوْنِ أَحَدِهِما أَصْلًا أَوْلَى مِنَ الآخَرِ. وقد تَبِعَ مَكِّيٌّ الزَّجَّاجَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ: ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الواوُ بَدَلٌ مِنَ الهَمْزَةِ، كَمَا لا يَحْسُنُ أَنْ يُقالَ ذَلِكَ فِي "أَحَد"؛ إِذْ أَصْلُهُ "وَحَد"، فَالهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الواوِ. يَعْني أَنَّهُ لا قائلَ بالعَكْسِ. وتَبِعَهُ في ذَلِكَ الزَمَخْشَرِيُّ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} الوَاوُ: للحالِ، و "قَدْ" للتحقيقِ. وَ "جَعَلْتُمُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ أَوَّل. و "عَلَيْكُمْ" على: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "جَعَلَ"، وكافُ الخطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. و "كَفِيلًا" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "تَنْقُضُوا"، أَوْ مِنْ فَاعِلِ المَصْدَرِ، وإِنْ كانَ مَحْذوفًا.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "يَعْلَمُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا (هو) يعودُ على "اللهَ" تَعَالَى. والجُمْلَةُ خَبَرُ "إنَّ" في محلِّ الرفعِ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" منِ اسمِها وخبرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلهَا لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "مَا" مَوْصولَةٌ أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُ "يَعْلَمُ"، و "تَفْعَلُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ. والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: تَفْعَلُونَهُ.