وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قولُهُ ـ جَلَّ شَأْنُهُ وَعَزَّ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} أَيْ: واذْكُرْ لهمْ يا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ وذَكِّرْهُمَ يَوْمَ نَبْعَثُ، أَوْ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ نَبْعَثُ. وَلَمَّا كَانَ بَعْثَ الشُّهَدَاءِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُرَادًا بِهِ بَعْثُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُضَارِعِ. و "أُمَّة" عِبَارَةٌ عَنِ الْقَرْنِ وَالْجَمَاعَةِ. والْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ جَمْعٍ وَقَرْنٍ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، وكذلكَ فإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ هُوَ شَاهِدٌ عَلَى أُمَّتِهِ بأنَّهُ بلغَهَمْ تكاليفَ ربِّهم لهم، والنِّظامَ الذي ارْتَضَاهُ لهمْ منهجًا لِحَيَاتِهِمْ. وَهَذِهِ الجملةُ تَكْرِيرٌ لِجُمْلَةِ قولِهِ مِنَ الآيةِ: 84، السابقةِ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، وَذَلِكَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ عَطْفُ جُمْلَةِ "وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ" عَلَى جُمْلَةِ {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ}. وَلَمَّا كَانَتِ هَذِهِ الجملةُ تَكْرِيرًا أُعِيدَ نَظِيرُ الْجُمْلَةِ عَلَى صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ مُقْتَرِنَةً بِالْوَاوِ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةَ وَصْفِ "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" فقدْ حَصَلَتْ مُغَايِرَةٌ مَعَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالْمُغَايَرَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْعَطْفِ أَيْضًا. وَمِنْ دَوَاعِي تَكْرِيرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، بُعْدِ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا، ومثْلُهُ في الشِّعْرِ قَوْلُ لَبِيَدِ بْنِ ربيعةٍ:
فَتَنَازَعَا سَبْطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ............... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ................ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
عِلْمًا بأَنَّ الْإِعَادَةَ هُنَا أَكثرُ ضرُورةً لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الجملتينِ أَطْوَلُ. وَقَدْ أَفادتِ الْإِعَادَةِ في الآيةِ الكريمةِ تَأْكِيدَ التَّهْدِيدِ. وعُدِّيَ فِعْلُ "نَبْعَثُ" هُنَا بِحَرْفِ الجرِّ "فِي"، بينما عُدِّيَ في نَظِيرَتِها السابِقَةِ بِحَرْفِ الجَرِّ "مِنْ" تَفَنُّنًا في القَوْلِ وتَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ.
قولُهُ: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ} زِيدَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّهِيدَ على الأُمَّةِ إنَّما يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وذَلِكَ للزِّيَادَةِ فِي التَّذْكِيرِ بِأَنْ لَا مَطْعَنَ عَلَى شَهَادَةِ الرُّسُلِ لِأَنَّ الشُهُودَ مِنْهِمْ أَنفُسِهم، فَلَا يَجِدُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَسَاغًا لِلطَّعْنِ على هَذَهِ الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّهِيدِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنْطِقُ عَشَرَةً مِنْ أَعْضَاءِ الإِنْسانِ حَتَّى إِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ وَهِيَ: الْأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْيَدَانِ وَالْجِلْدُ وَاللِّسَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الشَّهِيدِ أَنَّهُ "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وأُجَيبَ عَنْ قوْلِهِ هَذَا مِنْ ثلاثةِ وُجُوهٍ:
ـ أَوَّلُهُما: أَنَّهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى، قالَ: "شَهِيدًا عَلَيْهِمْ" أَيْ عَلَى الْأُمَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُمْ.
ثانِيها: أَنَّهُ قَالَ: "فِي كُلِّ أُمَّةٍ" فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهِيدُ مِنَ الْأُمَّةِ، وأَعْضَاءُ المَرْءِ مُنْفَرِدَةً لَا يَصِحُّ أَنْ تُوصَفَ بِأَنَّهَا أَحدُ أَفْرادِ الْأُمَّةِ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ ـ بَعْدَ زَمَانِ الرَّسُولِ، مِنَ شاهِدٍ عَلَى أُمَّتِهِ، وأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصُرِ مِنْ شَاهِدٍ عَلَى النَّاسِ، وَهَذَا الشَّاهِدُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ الخَطَأُ، وَإِلَّا لَافْتَقَرَ هو إِلَى شَاهِدٍ آخَرَ وهَكَذا، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَقْوَامٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ الحُجَّةَ وَالشَّهادةَ المُرادَةَ. وأَمَّا الشَّهِيدُ عَلَى المُعَاصِرينَ لِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ رَسُولُ اللهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية: 143.
ثالثُها: ومُقَابَلَةُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هَؤُلاءِ" يُبْعِدُ أَيْضًا مَا ذَكَرَ، وَأَمَّا حَمْلُ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَبَعِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ أَنْبِيَاءَ مَبْعُوثِينَ إِلَى الْخَلْقِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ "وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا" يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ "وَيَوْمَ نَبْعَثُ" كُلِّهَا. فَالْمَعْنَى: وَجِئْنَا بِكَ لَمَّا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أُمَّتِكَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، أَيْ مُقَدَّرًا أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا كَانَ حَيًّا فِي آنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ شَهِيدًا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَاخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي فِي جِئْنا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مَجِيءٌ حَصَلَ مِنْ يَوْمِ بِعْثَتِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ لِبَقِيَّةِ إِخْوَانِهِ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْأُمَمِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَهْدِيدُ قَوْمِهِ وَتَحْذِيرُهُمْ. والإِشَارَةُ هُنَا بِـ "هَؤُلاءِ" هي إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِمْ كانَ أَكْثَرُ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ في باقِي آياتِ القُرآنِ الكَريمِ، فَحَيْثُ وَرَدَ "هَؤُلاءِ" كانُوا هُمُ المَعْنِيِّينَ بِهِ. ولا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكونَ المُرادُ بِهِمْ مَا يَشْمَلُ الحَاضِرينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَغَيْرَهُمْ إِلَى يومِ القِيامَةِ، فإِنَّ أَعْمالَ أُمَّتِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مُرْسَلًا: (2/194). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الحارِثُ كَمَا في بُغْيَةِ الباحِثِ: (2/884 رَقَم: 953). ورَواهُ الدَيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَزَاهُ السُّيُوطِيُّ في الجَامِعِ الصَغيرِ للحَارِثِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ)). ورُوِيَ في الآثارِ أَنَّ أَعْمالَ العَبْدِ تُعْرَضُ عَلى أَقَارِبِهِ مِنَ المَوْتَى، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُنْيا عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قال: ((لا تَفضَحوا أَمواتَكم بِسيِّئاتِ أَعمالِكم، فإِنَّها تُعرَضُ عَلى أَوليائكمْ مِنْ أَهْلِ القُبورِ)). أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ: (5/29، رقم: 7357). وأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَرْفوعًا: ((إِنَّ أَعمالَكم تُعْرَضُ عَلى أَقارِبِكُمْ وَعَشَائرِكُمْ مِنَ الأَمْواتِ، فإِنْ كانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا، وإِنْ كانَ غَيْرَ ذَلِكَ قالوا: اللَّهُمَّ لا تُمَتَّعْهُمْ حَتَّى تَهْديهم كَما هَدَيْتَنا)). وأَخْرَجَهُ أَبو دَاوُدَ مِنْ حديثِ جابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بزيادةِ: ((وأَلْهِمْهم أَنْ يَعْمَلوا بِطاعَتِكَ)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُنيا عَنْ أَبي الدَّرداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: ((إِنَّ أَعمالَكم تُعْرَضُ عَلى مَوتاكم فَيُسَرُّونَ ويُساؤون)). فكانَ أَبُو الدَّرْداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقولُ عِنْدَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَمْقُتَني خَالي عَبْدُ اللهِ بْنُ رواحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذا لَقِيتُهُ، يَقولُ ذَلِكَ في سُجودِهِ. والنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأُمَّتِهِ بِمَنْزلَةِ الوالِدِ بَلْ أَوْلى.
قولُهُ: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا الْعُلُومُ الَّتِي لَيْسَتْ دِينِيَّةً فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا مَدَحَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى عُلُومِ الدِّينِ، فَأَمَّا غَيْرُ عُلُومِ الدِّينِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَعُلُومُ الدِّينِ إِمَّا أَنْ تكونَ أُصُولًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فُرُوعًا، فأَمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ فَهُوَ بِتَمَامِهِ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ فقدْ قالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّمَا كَانَ الْقُرْآنُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ كَانَ ذَلِكَ الحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ. وَالتِّبْيَانُ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَصْدَرِيَّةِ، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: "تِبْيَانًا" فِي مَعْنَى اسْمِ الْبَيَانِ. وَمِثْلُ "التِّبْيَانِ" الْتِلْقَاءُ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَرَوَى الْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَأْتِ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى وزنِ "تِفْعَالٍ" إِلَّا حَرْفَانِ "تِبْيَان" وَ "تِلْقَاء"، وَإِذَا تَرَكْتَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ اسْتَوَى لَكَ الْقِيَاسُ فَقُلْتَ: فِي كُلِّ مَصْدَرٍ "تَفْعَالٌ" بِفَتْحِ التَّاءِ، مِثْلُ: "تَسْيَارٍ" وَ "تَذْكَارٍ" وَ "تَكْرَارٍ"، وَأَمَّا أَسْمَاءُ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذِهِ الزِّنَةِ فَهِيَ ـ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، عُدَّ مِنْهَا: تِمْثَالٌ، وَتِنْبَالٌ، لِلْقَصِيرِ. وَأَنْهَاهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي نَظْمِ الْفَوَائِدِ إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً: "تِفْعَالٌ"، بِكَسْرِ التَّاءِ، مِثْلُ "تِقْصار" و "تِمْثَال". وتقولُ للرَجُلِ الكذَّابِ: تِكْذابٌ، وللصادقِ تِصْداق، وتِلْقامٌ: كَثيرُ اللَّقْمِ، وتِلْعابٌ: كثيرُ اللَّعِبِ، وَتِمْساحٌ، وتقولُ للناقةِ القريبةِ بِضِرابِ الفَحْلِ: تِضْراب، وتقولُ: تِمْرادٌ، والتِّمْرادُ، بالكسْرِ بَيْتٌ صَغِيرٌ فِي بَيْتِ الحَمامِ لمَبْيَضِهِ، وتقولُ لِثَوْبَيْنِ مَلْفوفيْنِ: تِلْفافٌ. وتقولُ: تِجْفاف لِمَا تُجَلِّلُ بِهِ الفَرَسَ لِيَقِيها الأَذْى، والتِهْواءُ: جزْءٌ ماضٍ مِنَ اللَّيْلِ، فتَقول: مَضَى تِهْواءٌ من اللَّيْلِ، (بالكسرِ) أَيْ: طائِفَةٌ مِنْهُ. وتقولُ للقَصيرِ اللَّئيمِ: تِنْبالٌ. كما تقولُ للورَقِ المُعَدِّ للكتابةِ: قِرْطاس، وتِعْشارٌ: موضِعٌ بالدَّهْناءِ، وقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِماءٍ فيها، قالَ النابِغَةُ الذُبيانيُّ:
وَبَنُو جَذيِمَةَ حَيُّ صِدْقٍ سادَةٌ ............. غَلَبُوا على خَبْتٍ إِلى تِعْشارِ
وقال بدْرُ بْنُ حَمْرَاءَ الضَّبِّيُّ:
وَفَيْتُ وَفَاءً لم يَرَ الناسُ مثْلَه ............. بتِعْشَارَ إِذ تَحْبُو إِلَيَّ الأَكَابرُ
ووكذلكَ تِبْراك اسمٌ لِمَوْضِعٍ، وقيلَ اسمٌ لماءٍ قربِ ماء تِعشار، قالَ جَرير يَهْجُو نِساءَ بَني نُمَيْرٍ:
ولو وَطِئَتْ نِساءُ بَني نُمَيْرٍ .................... عَلى تِبْراكَ أَخْبَثْنَ التُّرابا
وزادَ ابْنُ جعوان: تِمْثال، وتيفاق: لِموافقة الهِلالِ، واقْتَصَرَ أَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ في (شَرْحِ المُعَلَّقاتِ) عَلى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقالَ: لَيْسَ في كلامِ العَرَبِ عَلى (تِفعال) إِلَّا أَرْبَعَةُ أَسْماء وخامِسٌ مُختَلَفٌ فيهِ، يُقالُ تِبْيان، ويُقالُ لقِلادةِ المَرْأَةِ تِقْصار، وتِعشار وتِبْراك، والخامسُ: تِمْساح، وتَمْسح أَكْثَرُ وأَفصح. والمعروفُ أَنَّ "تِبْيَانًا" مَصْدَرٌ وليس باسْمٍ، وإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قولُ أَكْثَرِ النَّحْويِّينَ، وجَوَّزَ الزَّجَّاجُ فيهِ الفَتْحَ في غَيْرِ القرآنِ الكريم. وَيُفِيدُ قولُهُ: "كُلُّ شَيْءٍ" الْعُمُومَ، إِلَّا أَنَّهُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ فِي دَائِرَةِ مَا لِمِثْلِهِ تَجِيءُ الْأَدْيَانُ وَالشَّرَائِعُ: مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَإِكْمَالِ الْأَخْلَاقِ، وَتَقْوِيمِ الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ، وَتَبَيُّنِ الْحُقُوقِ، وَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَأْتِي فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدَّقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَوَصْفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَأَسْبَابِ فَلَاحِهَا وَخَسَارِهَا، وَالْمَوْعِظَةِ بِآثَارِهَا بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِهِمْ وَحَضَارَاتِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ. وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلشُّرُوعِ فِي تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعَمِ الْإِرْشَادِ وَنِعَمِ الْجَزَاء على الِامْتِثَال وَبَيَانُ بَرَكَاتِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ لَهُمْ.
قولُهُ: {وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا أَيْ أَرْسَلْنَاكَ شَهِيدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاهِدٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَمُرْشِدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الوَاوُ: للعطفِ، و "يَوْمَ" منصوبٌ على الظرْفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، وهوَ مُضافٌ، والتقديرُ: وذَكِّرْهمْ يَوْمَ. وَ "نَبْعَثُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تَعَالى. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافَة "يومَ" إليها. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَبْعَثُ". وَ "كُلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ. و "أُمَّةٍ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "شَهِيدًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. "عَلَيْهِمْ" على: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَبْعَثُ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ لِتَذْكيرِ الجَمْعِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفةٍ مقدَّرةٍ لِـ "شَهِيدًا". و "أَنْفُسِهِمْ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ تَذْكيرِ الجَمْعِ.
قولُهُ: {وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ} الوَاوُ: للعَطْفِ. و "جِئْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وَ "نَا" التَعْظِيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الفاعِليَّةِ. وَ "بِكَ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جِئْنَا"، وَكافُ الخِطَابِ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "شَهِيدًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ الضَمِيرِ في "بِكَ". و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَهِيدًا" و "هَؤُلَاءِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجملةُ في محلِّ الجرِّ عَطْفًا عَلَى جملةِ "نَبْعَثُ".
قولُهُ: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الوَاوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و "نَزَّلْنَا" مِثْلُ "جِئْنَا". وَ "عَلَيْكَ" على: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَزَّلَ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "الْكِتَابَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. "تِبْيَانًا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الْكِتَابَ" أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَلَمْ يَجِيءْ مِنَ المَصَادِرِ عَلَى هَذِهِ الزِّنَةِ إِلَّا لَفْظَانِ: هَذَا وَ "تِلْقاء"، وَفِي الأَسْمَاءِ كَثِيرٌ نَحْوَ: "التِّمْسَاحِ" و "التِّمْثال" ... . وَأَمَّا المَصَادِرُ فَقِياسُها فَتْحُ الأَوَّلِ دَلالَةً عَلَى التَكْثِيرِ كَ "التِّطواف" و "التِّجْوال". وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ التِّبْيانَ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، والنَّحْويُّونَ عَلى خِلافِهِ. وَ "لِكُلِّ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تِبْيَانًا"، و "كُلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "شَيْءٍ" مَجْرورٌ بِالإضافَةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} الوَاوُ: للعطفِ، و "هُدًى" و "رَحْمَةً" و "بُشْرَى" مَعْطوفاتٌ عَلَى "تِبْيَانًا". وَ "لِلْمُسْلِمِينَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بُشْرَى"، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى مُتَعَلِّقٌ أَيضًا بِـ "هُدًى ورَحْمَةً". وفِي جَوازِ كَوْنِ هَذَا مِنَ التَنَازُعِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ لُزُوم الفَصْلِ بَيْنَ المَصْدَرِ وَمعمولِهِ بِالمَعْطُوفِ حَالَ إِعْمَالِكَ غَيْرَ الثالِثِ. وَقِياسُ مَنْ جَوَّزَ التَنَازُعَ فِي فِعْلِ التَعَجُّبِ، والتُزِمَ إِعْمالُ الثاني لِئَلَّا يُلْزِمَ الفَصْلُ أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا عَلَى هَذِهِ الحالَةِ. وَ "المُسْلِمِينَ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.