الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} سَبِيلُ اللهِ، هِيَ السَّبِيلُ الْمُوصِلَةُ إِلَى اللهِ، أَيْ إِلَى الْكَوْنِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ. الْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْها منعُ الناسِ مِنَ الإيمانِ بسيِّدِنا محمدٍ ـ عليهِ وآلِهِ الصلاةُ والسَّلامُ، كَمَا فَعَلُوا مَعَ الْأَعْشَى أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ حينَ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، يُريدُ الإِسْلامَ، فَقَالَ يَمْدَحُهُ بِقَصِيدَةِ مَطْلِعُها:
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكِ لَيْلَةَ أَرْمَدَا ......... وعادَكَ ما عادَ السَّليمَ المُسهَّدا
فَلمَّا كَانَ بِمَكّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُسْلِمَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِنَّهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا. فَقَالَ الْأَعْشَى: وَاَللهِ إِنَّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ مَا لِي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ. فَقَالَ الْأَعْشَى: أَمَّا هَذِهِ فَوَاَللهِ إِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ، وَلَكِنِّي مُنْصَرِفٌ، فَأَتَرَوَّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمَّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ. فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِصَّتُهُ فِي كُتُبِ وَالْأَدَبِ والسِّيرَةِ النبويَّةِ الشَرِيفَةِ. وَكَمَا فَعَلُوا مَعَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الدَّوْسِيِّ فَإِنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ فَمَشَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا طُفَيْلُ، إِنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا، وَقَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسِّحْرِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَلَا تُكَلِّمَنَّهُ، وَلَا تَسْمَعْنَ مِنْهُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، كَيْفَ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لَهُ بِالْأَذَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ في جِوارِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ حِينَ عَلِمُوا بِإِسْلَامِهِ. وَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ بهذهِ الآيَةِ الكريمةِ إِلَى كَيْدِ المُشْركينَ وَمحاولاتِ إِفْسَادِهِمْ وصدِّهمْ عنْ سبيلِ الإيمانِ والخَيْرِ والفَضِيلَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شِرَاكِهِمْ. فإِنَّ جُنْدَ إِبْلِيسَ لا يَزَالُ هَذَا دَأْبُهم وديدَنُهمْ إِلَى قِيامِ السَّاعَةِ.
قولُهُ: {زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} زِيَادَةُ الْعَذَابِ: مُضَاعَفَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو يَعْلَى المَوْصِليُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ والنُّشُورِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ في قولِهِ تَعَالى: "زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ": عَقَارِبُ أَنْيَابُهَا كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ، وَحَيَّاتٌ مِثْلُ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ، وَأَفَاعِي كَأَنَّهَا الْبَخَاتِيُّ (جِمَالٌ طِوالُ الأَعْنَاقِ) تَضْرِبُهُمْ، فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي الْآيَة قالَ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذا جَزِعُوا مِنْ حَرِّهَا اسْتَغَاثُوا بِضَحْضَاحٍ فِي النَّارِ، فَإِذا أَتَوْهُ تَلَقَّاهُمْ عَقَارِبُ كَأَنَّهُنَّ البِغَالُ الدُهْمُ، وأَفَاعٍ كَأَنَّهُنَّ البَخَاتِي، فَضَرَبْنَهُمْ، فَذَلِكَ الزِّيَادَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ" قَالَ: خَمْسَةُ أَنْهَارٍ مِنْ نَارٍ صَبَّهَا اللهُ عَلَيْهِمْ، يُعَذَّبُونَ بِبَعْضِهَا بِاللَّيْلِ، وبِبَعْضِهَا بِالنَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ جَابرِ بْنِ عبدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الزِّيَادَةُ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ عَلَى رُؤُوسِ أَهْلِ النَّارِ ثَلَاثَةُ أَنْهَارٍ عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ، وَنَهْرانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ".
وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ فَيُبَادِرُونَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى زِدْنَا الْقَادَةَ عَذَابًا فَوْقَ السَّفَلَةِ، فَأَحَدُ الْعَذَابَيْنِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَالْعَذَابُ الْآخَرِ عَلَى صَدِّهِمْ. وذَلِكَ العذابُ "بِما كانُوا يُفْسِدُونَ" فِي الدُّنْيَا مِنَ الكُفْرِ وَالمَعْصِيَةِ. فَإنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ في الآيَةِ التي قَبْلَها ما يَنتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمُ، تَوَعَّدَهُمْ هُنَا بِزِيَادَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي كُفْرِهِمْ وَهِيَ صَدُّ النَّاسَ عَنِ الإيمانِ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنا مُحمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتِّبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ، دِينِ الإسْلامِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوْقَ الْعَذابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمَعْهُودِ حَيْثُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ الآيةِ: 85، السابِقَةِ: {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ}، لِأَنَّ عَذَابَ كُفْرِهِمْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَارَ كَالْمَعْهُودِ، وَأَمَّا عَذَابُ صَدِّهِمُ النَّاسَ، فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، فَكَانَ مَجْهُولًا فَنَاسَبَهُ التَّنْكِيرُ.
قولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الَّذِينَ: اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "كَفَرُوا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "صَدُّوا" مِثْلُ "كَفَرُوا"، مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. و "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "صَدُّوا". و "سَبِيلِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ. ولَفْظُ الجَلالَةِ " اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} زِدْنَاهُمْ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" التَعْظيمِ، و "نا" المُعَظِّمِ نَفسَهُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُ "زِدْنا" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "عَذَابًا" مَفعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "زِدْنا". والجملةُ خبرُ المُبتدَأِ "الذين". وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكونَ "الذين كَفَرُواْ" بَدَلًا مِنْ فاعِلِ {يَفْتَرُوْن}، فتَكون جملةُ "زِدْناهم" مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ "الذين كَفَرُواْ" نَصْبًا عَلَى الذَّمِّ، أَوْ رَفْعًا عَلَيْهِ، فَيُضْمَرُ النَّاصِبُ والمُبْتَدَأُ وُجُوبًا. و "فَوْقَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الاعتباريَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ صِفَةٍ لِـ "عَذَابًا" وهو مُضافٌ، و "الْعَذَابِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ وسَبَبٍ متعلق بـ "زِدْنَا". و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، و "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كان"، والأَلِفُ فارقةٌ. و "يُفْسِدُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خبرُ "كانَ" وجُمْلَةُ "كانَ" صِلَةُ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ، و "مَا" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ، مَجْرورٍ بِالباءِ، والتَقْديرُ: بِسَبَبِ إِفْسادِهم.