وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} مِنَ الآيةِ التي قبلَها. و "الَّذينَ ظَلَمُوا" همُ المُشْركونَ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمِ حِينَ أَشْرَكُوا معَ اللهِ غيرَهُ فأَوْقَعُوها في سَخَطِ اللهِ تَعَالى وعَرَّضُوها لِشَديدِ عَذَابِهِ، وأَلِيمِ عقابِهِ. قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ بـ "الذينَ ظَلَمُوا": الذينَ أَشْرَكوا، والتَّعْبِيرُ بِهِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَلَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، ثُمَّ يُسَاقُونَ إِلَى الْعَذَابِ فَإِذَا رَأَوْهُ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ، أَيْ يَسْأَلُونَ تَخْفِيفَهُ أَوْ تَأْخِيرَ الْإِقْحَامِ فِيهِ، فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُريدُ بـ "الْعَذَابَ" النَّارَ. فقدْ أُطْلِقَ الْعَذَابُ عَلَى مَكَانِهِ وأَدواتِهِ.
قولُهُ: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} إِذْ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ بِالاعْتِذَارِ فَيَعْتَذِرُونَ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ، بِهَذَا العُذْرِ، وَلاَ يُمْهَلُونَ لِلتَّوْبَةِ، لأَنَّ وَقْتَ التَّوْبَةِ قَدْ فَاتَ، فَيَأْخُذُهُمُ العَذَابُ سَرِيعًا دُونَ إِبْطَاءٍ، وَيَكُونُ عَذَابُهُمْ مُسْتَمِرًّا مُتَوَاصِلًا فِي شِدَّتِهِ، لاَ يَتَوَقَّفُ لَحْظَةً، وَلاَ يُخَفَّفُ عنهم شيءٌ منهُ وَلاَ يَفْتُرُ. يُخْبِرُنا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ المباركةِ أَنَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةَ والمُشْركينَ الظالِمِينَ أَنْفُسَهمْ بِكُفْرِهِمْ باللهِ وإِشْراكِهِم معهُ غيرَهُ في العبادةِ، إِذَا أَرَاهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَذَابَ اللهِ، وَشَارَفُوا جهَنَّمَ وَتَحَقَّقُوا كُنْهَ شِدَّتِها، فإِنَّ هَوْلَ ذَلِكَ الأَمْرِ الذي نَزَلَ بِهِمْ لا يُخَفَّفُ عَنْهم وَلَا يُؤَخَّرُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ.
ففِي الآيَةِ بَيَانٌ للفَرْقَ بَيْنَ مَا يَحِلُّ بِالمُشْركينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ عذابٍ، وَبَيْن رَزَايَا الدُنْيا وعذابها، فَإِنَّهُ لا يحلُّ بِالمَرْءِ خَطْبٌ في الدُنْيَا إِلَّا وَلَهُ طَمَعٌ في أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ ويَتَخلَّصَ مِنْهُ، أَوْ يَتَأَخَّرَ أو يَجِيئَ أَخَفَّ ممَّا هوَ، أَمَّا عَذَابُ الآخِرَةِ فَإِذا عَايَنَهُ الكافِرُ، أَيْقَنَ أنْ لا طَمَعَ لَهُ بِتَخْفِيفٍ عنهُ وَلا بِتَأْخِيرٍ.
وقَدْ أَوْضَحَ ـ تَعَالَى، هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ الكريمِ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ في الآيَةِ: 18، مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا}. وَقَالَ في الآيَتَيْنِ: (39 و 40) مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياءِ: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُون}. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أبي الْعَالِيَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَإِذا رأى الَّذين ظلمُوا الْعَذَاب فَلَا يُخَفف عَنْهُم وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} قَالَ: هَذَا كَقَوْلِهِ: {هَذَا يَوْمٌ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُم فَيَعْتَذِرُونَ} الآيتان: (35 و 36) مِنْ سورةِ المُرْسَلاتِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} الواوُ: للعطْفِ أوْ للاسْتِئْنافِ. و "إِذا" شَرْطِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ مُتَعَلِّقٌ بِمَضْمُونِ الجَوابِ. وَجَعَلَ أَبُو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ صَاحِبُ (الْكَشَّافِ) "إِذا" ظَرْفًا مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ يَقْتَضِي تَقْدِيرُهُ عَدَمَ وُجُودِ مُتَعَلَّقٍ للظَّرْفِ لِيُقَدَّرَ لَهُ مُتَعَلَّقٌ بِمَا يُنَاسِبُ، كَمَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيةِ التي قبلَها: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ}. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ وَبَغَتَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُخَفَّفُ فَصِيحَةٌ وَلَيْسَتْ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ. وَ "رأَى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحَةِ المُقَدَّرَةِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ. وَ "الذينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَاعِلُهُ. وجُمْلَةُ "رَأى" فِي مَحلِّ الجَرِّ بإِضافَةِ "إذا" إِلَيْها عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "ظَلَمُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "العَذابَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} الفاءُ: رابِطَةٌ لِجَوَابِ "إذَا" جَوَازًا، وتَقَدَّمَ رَأْيُ الزمَخشريِّ فيها بِأَنَّها الفَصيحَةُ. و "لا" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "يُخَفَّفُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ. وَنائبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الْعَذَابَ"، و "عَنْهُمْ" عَنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُخَفَّفُ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ جَوابُ "إِذَا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَجُمْلَةُ "إذا" مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ معطوفةٌ كما تَقَدَّمَ بيانُهُ آنِفًا.
قوْلُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الوَاوُ: للعطْفِ. و "لَا" نافيةٌ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "ينُظَرُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وهو مبنيٌّ للمجهولِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ نائبٌ عَنْ فَاعِلِهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "لا يُخَفَّفُ" على كونِها جَوابَ "إِذَا" الشَّرْطِيَّةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.