فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} صَرْفٌ للخِطَابِ عَنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَسْلِيَةً لَقَلْبِهِ الشَّريفِ، أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِسْلامِ، ولَمْ يَقْبَلُوا مِنْكَ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ البَيَنَاتِ والعِبَرِ والعِظَاتِ "فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ" أَيْ: فَلَا قُصُورَ مِنْ جِهَتِكَ لأَنَّ مُهِمَّتَكَ هِيَ البَلاغُ الواضِحُ المُوَضِّحُ، وقدْ قُمْتَ بِمَا لا مَزِيدَ عَلَيْهِ في هَذَا المَجال مِنْ بابِ وَضعِ السَبَبِ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ، وهو التفاتٌ، فَإِنَّ تولَّى قومُكَ يا رَسولَ اللهَ عن اتباعِ هذا الدينِ وسلوكِ هذا المنهَجِ، بَعَدَ كلِّ ما تقدَّمَ مِنْ بَراهينَ عَلى عَظَمَةِ الخَالِقِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وبَالِغِ حِكْمَتِهِ، فَاعْلَمْ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغِ وحَسْبُ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءَ} الآيةَ: 272. وقولُهُ مِنْ سُورَةِ الغاشِيَةِ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} الآيتانِ: (21 و 22). وغَيْرِها.
قولُهُ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} قَصَرَ ـ سبْحانَه، وَظِيفَةَ رَسُولِهِ ـ صَلَوَاتُ رَبِّي وسَلامُهُ عَلَيْهِ، عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ وَتَفْهِيمِها للنَاسِ، وحَسْبُ، وليسَ عَلَيْهِمْ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اتِّبَاعِ مِنْهَجِ هَذِهِ الرَّسالَةِ بِالقُوَّةِ، حَتَّى يَكونَ ثَمَّةَ فَضْلٌ للإيمانِ وَقِيمَةٌ للكَسْبِ، يُجَازَى المُكلَّفُ عليها. وَ "البُلاغُ المُبِينُ" هُوَ البَلاغُ التَّامُّ الذي يُوضِّحُ الرِّسَالَةَ التي كُلِّفَ الرَّسُولُ بِحَمْلِها إِلَى النَّاسِ مِنْ خَالِقِهِمْ، وَهِيَ الدِّينُ الكامِلُ الذي يَشْمَلُ جُزْئِيَّاتِ الحَياةِ وَحَرَكاتِها كُلَّها. فقَدْ جاءَ المِنْهَجُ الإِلَهِيُّ شامِلًا للحياةِ مِنْ شَهَادَةِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحمَّدٌ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ حَتَّى إِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّريقِ، فَلَمْ يَتْرُك ْشَيْئًا إِلَّا شملَهُ وبيَّنَهُ وأَرْشَدَنا للمِنْهَجِ السَّليمِ فيهِ، فهذا بَلاغٌ مُبِينٌ مُحيطٌ لِمَصالِحِ النَّاسِ. فَمِنْهَجُ اللهِ كامِلٌ شاملٌ محيطٌ بِجَوانِبِ الحياةِ كلِّها، فلَوْ لَمْ تتَّخِذْهُ البشريَّةُ دِينًا لَوَجَبَ عليها أَنْ تتَّخِذَهُ نِظامًا للحياةِ. فلو أنَّ عُقلاءَ البشريَّةِ وحكماءها، مِنْ آدمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى قيامِ الساعةِ قُدِّر لهم أنْ يجتمعوا ويتوافقوا على نظامٍ واحد للبَشَرِيَّةِ يُراعى المصلحةَ العُليا للإنسانيَّةِ جمعاءَ، وقُدِّرَ لهم أَنْ يَتَخَلُّصُوا مَنْ أَهْوائِهمْ وعَصَبِيَّاتِهِمْ، لَمَا اسْتَطاعُوا أَنْ يَضَعُوا مِثلَ هَذَا المنهَجِ لأنَّ الذي وَضَعَهُ هو خالقُ هذا الكونِ وما فِيهِ مِنْ مخلوقاتٍ بما في ذلك الإنسان، وهو الأعلمُ بما خلقَ وبما يصْلُحُ لِهَذِهِ المخلوقاتِ ويُصْلِحُها.
قولُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} الفاءُ: هِيَ الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذا بَلَّغْتَهمْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، وأَرَدْتَ بَيَانَ حُكمِ مَا إِذا أَعْرَضُوا عَنْهُ. فَأَقُولُ لَكَ "إِنْ تَوَلَّوْا". و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ. و "تَوَلَّوْا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ المُقَدَّرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لِالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي مَحَلِّ جَزْمِ فِعْلِ الشَّرْطِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُسْتترٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فَاعَلُهُ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: فَلَا تُذْهِبْ نَفَسَكَ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَالجُمْلَةُ الشَرْطَيَّةُ في مَحَلَّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ.
قولُهُ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} الفاءُ: تَعليليَّةٌ، و "إِنَّمَا" أَدَاةُ حَصْرٍ. "عَلَيْكَ" على" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "الْبَلَاغُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "الْمُبِينُ" صِفَةٌ لِـ "البَلاغُ" مرفوعةٌ مثلهُ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلامِ التَعْليِلِ المُقَدَّرَةِ المَدْلُولِ عَلَيْهَا بالفاءِ التَعْلِيلِيَّةِ، والتَقْديرُ: فإِنْ تَوَلَّوْا فَلا مَلامَةَ عَلَيْكَ، ولا قُصُورَ مِنْ جِهَتِكَ فِي حَقِّهِمْ، لِعَدَمِ كَوْنِ غَيْرِ البَلاغِ متوجِّبًا عَلَيْكَ؛ أَيْ: لَيْسَتْ هِدايَتُهم عَلَيْكَ، وإنَّما عليك البلاغُ وحسب