أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(79)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مَعْنَاهُ: إِنْكَارُ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمُ الطَّيْرَ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ بِتَنْزِيلِ رُؤْيَتِهِمْ هَذِهِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ رُّؤْيَتِهم مِنْ إِدْرَاكِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَرْئِيُّ مِنِ انْفِرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وآيَةٌ أُخْرَى في التَّدْلِيلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالى، وَعَلَى بَدِيعِ صُنْعِهِ، وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ. وتَنْبيهٌ للنَّاسَ إِلَى لُطْفٍ يُشَاهِدُونَهُ أَجْلَى مُشَاهَدَةً لِأَضْعَفِ الْحَيَوَانِ، بِأَنَّ تَسْخِيرَ الْجَوِّ لِلطَّيْرِ وَخَلْقِهَا صَالِحَةً لِأَنْ تُرَفْرِفَ فِيهِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ هُوَ لُطْفٌ بِهَا اقْتَضَاهُ ضَعْفُ بِنْيَاتِهَا، إِذْ كَانَتْ عَادِمَةً وَسَائِلَ الدِّفَاعِ عَنْ حَيَاتِهَا، فَجَعَلَ اللهُ لَهَا سُرْعَةَ الِانْتِقَالِ مَعَ الِابْتِعَادِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يَعْدُو عَلَيْهَا مِنَ الْبَشَرِ وَالدَّوَابِّ. وذلك بَعْدَ مَا ذَكَرَ في الآيةِ التي قبلَها مَوْهِبَةَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الَّتِي بِهَا تَحْصِيلُ الْمَنَافِعِ وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ، لِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ هذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي مَضْمُونِهَا نِعْمَةٌ عَلَى الْبَشَرِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ.
وَالتَّسْخِيرُ: مَعْنَاهُ التَّذْلِيلُ لِلْعَمَلِ. وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أَنَّ الطَيَرانَ لَيْسَ مُقْتَضَى طَبْعِ الطَّيْرِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ قد تَمَّ بِتَسْخيرِ اللهِ تَعَالى. وَالْجَوُّ: الْفَضَاءُ الَّذِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "فِي جَوِّ السَّمَاءِ" فِي كَبِدِ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فِي جَوِّ السَّمَاءِ" قَالَ: جَوفِ السَّمَاءِ. وَأَمَّا إِضَافَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ فَلِأَنَّهُ يَبْدُو مُتَّصِلًا بِالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ فِي مَا يَخَالُ النَّاظِرُ.
قولُهُ: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ} أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الإمامِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ" قَالَ: يُمْسِكُهُ اللهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَالْإِمْسَاكُ: قَبْضُ اليَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَشَّدُّهُ مَخَافَةَ أَنْ يَسْقُطَ أَوْ يَتَفَلَّتَ. فَإِذا قالَ قائلٌ إِنَّ الطَيْرَ يَفرُدَ جَنَاحَيْهِ في الفَضَاءِ يَضْرِبُ بِهِما الهَواءَ فَيَرْتَفِعُ عن سطح الأرضِ، نَقُولُ وَمَنْ يُمْسِكُهُ في الفَضَاءِ حِيْنَ يَقْبِضُ جَنَاحَيْهِ؟. وَإِمْسَاكُ اللهِ تَعَالى إِيَّاهَا خَلْقُهُ الْأَجْنِحَةَ لَهَا وَالْأَذْنَابَ، وَجَعْلُهُ الْأَجْنِحَةَ وَالْأَذْنَابَ قَابِلَةً لِلْبَسْطِ، وَخَلْقُ عِظَامِهَا أَخَفَّ مِنْ عِظَامِ الدَّوَابِّ بِحَيْثُ إِذَا بَسَطَتْ أَجْنِحَتَهَا وَأَذْنَابَهَا وَنَهَضَتْ بِأَعْصَابِهَا خَفَّتْ خِفَّةً شَدِيدَةً فَسَبَحَتْ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَصْلُحُ ثِقَلُهَا لِأَنْ يَخْرِقَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْهَوَاءِ إِلَّا إِذَا قَبَضَتْ مِنْ أَجْنِحَتِهَا وَأَذْنَابِهَا وَقَوَّسَتْ أَعْصَابَ أَصْلَابِهَا عِنْدَ إِرَادَتِهَا النُّزُولَ إِلَى الْأَرْضِ أَوِ الِانْخِفَاضَ فِي الْهَوَاءِ. فَهِيَ تَحُومُ فِي الْهَوَاءِ كَيْفَ شَاءَتْ ثُمَّ تَهْبِطُ مَتَى تَشَاءُ، أَوْ إِذَا عَيِيَتْ عَنْ ذَلِكَ فإنَّها تَسْقُطُ، وكلُّ ذِلِكَ بتقديرِهِ وإرادتِهِ، ووفقَ مَشِيئَتِهِ، وَهُوَ لُطْفٌ بِهَا.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} باللهِ وبما جاءتْ بِهِ رُسُلُهُم. فإِنَّ لِمَنْ نَظَرَ إلى هَذَهِ الآيَةِ مِنْ آياتِهِ الكُبْرَى في خَلْقِهِ ـ تَعَالَى، لَعِبْرَةً إِذا مَا نَظَرَ إِلَيْهَا نَظَرَةَ اعْتِبارٍ واسْتدلالٍ عَلَى عَظَمَةِ الخالِقِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى. فإنَّ هَذِهِ الآيةَ مِمَّا يَزيدُهُ مَعْرِفَةً بِعَظَمَةِ مَوْلاهُ فيَزْداد بِهِ إيمانًا. وَعَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ العَظِيمَةِ بِـ "آياتٍ" جَمْعًا لِأَنَّ فِي الطَّيَرانِ دَلَائِلَ مُخْتَلِفَةً: مِنْ خَلْقِ الْهَوَاءِ، وَخَلْقِ أَجْسَادِ الطَّيْرِ مُنَاسِبَةً لِلطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَإِلْهَامِ الطَّيْرِ بِأَنْ يَسْبَحَ فِي الْجَوِّ، وَبِأَنْ لَا يَسْقُطَ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ. وَقد خُصَّتِ هذهِ الْآيَاتُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ بِخُلُقِ الْإِيمَانِ قَدْ أَلِفُوا إِعْمَالَ تَفْكِيرِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِنَّ خُلُقَ الْكُفْرِ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّفْرَةِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّاصِحِينَ وَعَلَى مُكَابَرَة الحَقِّ. فقدْ حَصَلَ بَيْنَ الْإِنْكَارِ عَلى الكفَّارِ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ تَسْخِيرَ الطَّيْرِ، وَبَيْنَ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَبَيْنَ نَفْيِ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَأْكِيدِ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤمنِينَ لِتِلْكَ الآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ أَيْضًا. وَبَيْنَ الضَمِيرِ في "يَرَوْا" الاي يعودُ عَلى، المُشْركينَ وَقَوْلِهِ: "قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" تَضَادٌّ أَيْضًا، فَقَدْ حَصَلَ الطِّبَاقُ ـ إِذًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ في هَذِهِ الآيَةِ المُبَارَكَةِ. وَهَذَا أَبْلَغُ طِبَاقٍ جَاءَ مَحْوِيًّا لِلْبَيَانِ.
قولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} الهمزة: للاسْتِفْهامِ التَعَجُبِيِّ التَقْريرِيِّ، و "لم" حَرْفُ جَزِمٍ ونفيٍ وقَلْبٍ. و "يَرَوْا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِها، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النّونِ مِنْ آخرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وقد تَعَدى بـ "إِلَى" لِتَضْمينِهِ مَعَنَى النَّظَرِ، و "الطَّيْرِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مُسَخَّرَاتٍ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الطَّيْرِ"، وعلامةُ نصْبِهِ الكَسْرُ نيابةً عَنِ الفتحِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّسِ السَّالمُ. و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مُسَخَّرَاتٍ"، و "جَوِّ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "السَّمَاءِ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ جُمْلَةٌ إِنْشَائيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ} مَا: نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لها. و "يُمْسِكُهُنَّ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "هُنَّ" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفَتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصبِ مَفْعُولُ بِهِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ (أداةُ حصْرٍ). ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ حَالٌ ثانِيَةٌ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ فِي "مُسَخَّراتٍ"، أَوْ مِنَ "الطَّيْرِ"، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ" المُقَدَّمِ، و "ذَلِكَ" ذا: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "لَآيَاتٍ"، اللامُ: هي المزحلقةُ للتوكيدِ (حرْفُ ابْتِداءٍ)، و "آيَاتٍ" اسْمُ "إِنَّ" مؤخَّرٌ مَنْصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرُ نيابةً عَنِ الفتحِ، لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ. و "لِقَوْمٍ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ "آيات"، و "قَوْمٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، و "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِفَةٌ لِـ "قَوْمٍ" في محلِّ الجرِّ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {أَلَمْ يَرَوْا} بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى الخَبَرِ بطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ التي قَبْلَها: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ. وقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ: "أَلَمْ تَرَوْا" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الْمَذْكُورِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.