الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ
(91)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أَيْ: الذينَ جَزَّؤوهُ، فَجَعَلُوهُ أَعْضَاءَ، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. وَهُمُ اليَهودُ والنَّصَارَى الذينَ قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ، وفَرَّقُوهُ، وَبَدَّلُوا فِيهِ. وَ "عِضِينَ" جَمْعُ عِضَةٍ، وَهِيَ الْعُضْوُ مِنَ الشَّيْءِ. يُقَالُ: عَضَيْتُ الشَّاةَ، والجَزُورَ، تَعْضِيَةً، إِذَا جَعَلَهَا أَعْضَاءً وَقَسَمَهَا. قالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ:
نُشَّذِّبُ عَنْ خِنْدِفٍ حَتَّى تَرْضَى ............... وَلَيْسَ دَيْنُ اللهِ بالمُعَضَّى
وقالَ المُخَبّلُ السَّعْدِي:
وعَضَّى بَنِي عَوْفٍ فأَمَّا عَدُوَّهُمْ ........... فأَرْضَى، وأَمَّا الْعِزُّ مِنْهُمُ فغيَّرا
فقولُهُ (عَضَّى بَني عَوْفٍ): يَعْنِي أَنَّهُ سَبَى بَنَي عَوْفٍ، وقَسَّمَهُمْ، فَأَرْضَى بِذَلِكَ عَدُوَّهم، وأَمَّا (بَني عَوْفٍ)، فَقد غَيْرَ حَالَهُم، فأَصْبحوا أَذِلَّةً مِنْ بَعْدِ العزِّ والسِيَادَةِ.
ورَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وأَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهم: "جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ" قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّؤوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، والحَسَنِ البَصْريِّ، والضَحَّاكِ، وعِكْرِمَةَ، وسَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهم، نَحَوَ ذَلِكَ. وأَخْرجَ البَيْهَقِيُّ في السُنَنِ الكُبْرَى: (10/226)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: ((لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إِلَّا فِيمَا احْتَمَلَ الْقِسْمَةَ)). وأَخْرَجَهُ الدارَ قُطْنِيُّ في كتابِ: الأَقْضِيَةِ والأَحْكامِ: (4/219)، بِنَحْوِهِ. أَيْ لَا تَجْزِئَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّيْفِ وغيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَضُوهُ أَعْضَاءً، قَالُوا: سِحْرٌ، وَقَالُوا كِهَانَةٌ، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلينَ. وقالَ عَطَاءٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وقالوا: مَجْنُونٌ، وَقالوا: كَاهِنٌ، فَذَلِكَ الْعِضِينُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ. وَهذا هوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ وأَهْلِ المَعَانِي.
وَالعِضَهُ أَيْضًا: السِحْرُ، فالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّاحِرَ عَاضِهًا، وَالسَّاحِرَةَ عَاضِهَةً. وَالسِّحْرَ عِضَهًا. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَجاءَ فِي الْحَدِيثِ الشريفِ قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لَعَنَ اللهُ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ)). رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى المَوْصِليُّ، وابْنُ عَدِيٍّ، مِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهم: "جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ" قَالَ: السِّحْرُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْعَضْهُ السِّحْرُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ تَقُولُ لِلسَّاحِرَةِ إِنَّهَا الْعَاضِهَةُ. وَمِنَ الشِعرِ البيتُ الذي أَنْشِدَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وهوَ قولُهُ:
أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ...................... تِ فِي عُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
والعِضَةُ أَيْضًا النَمِيمَةُ ذَكَرَ ذلكَ عَبْدُ الرَزَّاقِ الصَنْعَانِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءْ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وَجاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: عَنِ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إيَّاكُمْ والعِضَه، أَتَدْرُونَ مَا العِضَهْ؟ هِيَ النَمِيمَةُ). وهذا جُزْءٌ مِنْ حَديثٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ في مُصَنَّفِهِ: (11/117)، والطَبَرانيُّ في المُعْجَمِ الكبيرِ: (7/492)، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ: (10/307)، والبغويُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (13/154)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ونَصُّهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْهَدْيُ وَالْكَلَامُ، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْي مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلَا إِيَّاكُمْ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْبِدَعَ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ. أَلَا لَا يَطُولُ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ. أَلَا كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ الْبَعِيدَ مَا لَيْسَ بِآتٍ. أَلَا إِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. أَلَا وَإِنَّ شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ، أَلَا وَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا أَنْ يَعِدَ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ، أَلَا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا، وَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا))، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْعِضَةَ، أَتَدْرُونَ مَا الْعِضَةُ؟. النَّمِيمَةُ، وَنَقْلُ الْأَحَادِيثِ). جَامِعُ مُعَمَّرِ بْنِ راشِدٍ الأَزْدِيِّ: (11/116).
والعِضَاهُ أَيْضًا: مِنْ شَجَرِ الشَّوكِ، كالطَّلْحِ والعَوْسَجِ، والسِّدْرِ، يُقالُ: هِيَ مِنَ العِضَاهِ ونحُوِها ممَّا كانَ لَهُ أُرُومَة تَبْقَى عَلَى الشِّتَاءِ.
ويُقالُ: عِضَاهَةٌ واحِدَةٌ. وعِضَةٌ: عَلَى قِياسِ عِزَةٍ، تُحْذَفُ منها الهاءُ الأَصْلِيَّةُ كَمَا حُذِفَتْ مِنَ (الشَّفَةِ)، ثمَّ رُدَّتْ في (الشِّفاهِ). والتَّعضيَةُ: قَطْعُ العِضاهِ واحتِطابُهُ. وبَعِيرٌ عَضِهٌ: يَأْكُلُ العِضَاهَ، قالَ هَمْيَانُ بُنُ قُحَافَةَ السَّعْدِيُّ الرَّاجِزُ:
وقرَّبُوا كُلَّ جُمالِيٍّ عَضِهْ ...................... قَريبَةٍ نُدْوَتُهُ عَنْ مَحْمَضِهْ
وجاءَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ ما رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقَالُوا: وَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ، قَالَ: بَلْ أنتم قُولُوا لِأَسْمَعَ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَالُوا: فَمَاذَا نَقُولُ؟ قَالَ: وَاللهِ إنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلاوَةٌ، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا هُوَ سَاحِرٌ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، وأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ "الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ" أَصْنَافًا، {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} أُولئكَ النَّفَرُ الذينَ قالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ. وقدْ تَقَدَّمَ.
قولُهُ تَعَالى: {الذينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ الجرِّ صِفَةٌ لِـ "الْمُقْتَسِمِينَ"، وهو الأَظْهَرُ، أَو أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ. أَوْ بَيَانٌ لَهُ. أَوْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَمِّ. ويَجُوزُ أَنْ يُعربَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقديرُهُ "هُمْ" والجُمْلَةً اسْتِئْنافٌ بَيَانِيٌّ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. وقالَ الزمَخْشَريُّ: إِنَّهُ مَنْصوبٌ بالنَذيرِ المُبِينِ، وهوَ مَرْدُودٌ بإعْمالِ الوَصْفِ بالمَوْصُوفِ عِنْدَ البَصْرِييِّنَ. و "جَعَلُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلٌ، والأَلِفُ الفارِقَةُ. و "القرآنَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ أَوَّلُ، وَ "عِضِينَ" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السَّالِمِ، والنونُ عِوَضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وبَعْضُهُمْ يُجْري النُّونَ بالحَركاتِ مَعَ الياءِ، وحِينَئِذٍ تَثْبُتُ نُونُهُ في الإِضافَةِ فَيُقالُ: هَذِهِ عِضِيْنُك. وجُمْلَةُ "جعلوا" الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.