لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
(88)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} المعنى: لا تَطْمَحْ بِبَصَرِكَ إلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنَ الكُفَارِ والمُشْرِكينَ رَغْبَةً فِيهِ، فقَدْ أَغْنَيْتُكَ بِالْقُرْآنِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك" الْآيَةَ، قَالَ: نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَمَنَّى مَالِ صَاحِبِهِ. فالمُخاطَّبُ هَنَا النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، تَشْريفًا، والمَعنيُّ بِهِ هوَ كلُّ أَحَدٍ تكليفًا. وَقد اسْتُعِيرَ الْمَدُّ هُنَا إِلَى التَّحْدِيقِ بِالنَّظَرِ وَالطُّمُوحِ بِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَدِّ الْيَدِ لِلْمُتَنَاوِلِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَظَرُ الْإِعْجَابِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ فِي رَفَاهِيَةِ عَيْشِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، وَأَصْلُ الْمَدِّ: الزِّيَادَةُ، وَأُطْلِقَ عَلَى بَسْطِ الْجِسْمِ وَتَطْوِيلِهِ فَقِيلَ: مَدَّ يَدَهُ إِلَى الشَّيْءِ لِيُمْسِكَ بِهِ، أَوْ لِيَتَناوَلَهُ أوْ غيرِ ذلك، وَمَدَّ رِجْلَهُ يَمْشي فِي الْأَرْضِ مُسْرِعًا. ثُمَّ اسْتُعِيرَ المَدُّ لِلزِّيَادَةِ في الشَيْءِ. وَمِنْهُ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَمَدُّ الْبَحْرِ، وَالْمَدُّ فِي الْعُمُرِ، إلى غيرِ ذَلِكَ. وَتِلْكَ كلُّها إِطْلَاقَاتٌ شَائِعَةٌ صَارَتْ حَقِيقَةً.
و "أَزْوَاجًا" أَيْ: أَمْثَالًا فِي النِّعَمِ، أَيِ الْأَغْنِيَاءِ بَعْضُهُمْ أَمْثَالُ بَعْضٍ فِي الْغِنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قولُهُ "أَزْوَاجًا" عَلَى مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ، والمقصودُ الْكُفَّارُ وَنِسَائُهُمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ هُنَا أَنَّ حَالَتَهُمْ أَتَمُّ أَحْوَالِ التَّمَتُّعِ لِاسْتِكْمَالِهَا جَمِيعَ اللَّذَّاتِ وَالْمُؤانَسَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مِنَ الْمَجَازِ والمُرَادُ بِهِ الْأَصْنَافُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَزْوَاجًا مِنْهُم" قَالَ: الْأَغْنِيَاءُ الْأَمْثَالُ والْأَشْبَاهُ. وَوَجْهُ ذِكْرِهِ هُنَا فِي هذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَى الْعَيْنُ مِثْلِهِ لَيْسَ ثَابِتًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بَلْ هُوَ شَأْنُ كُبَرَائِهِمْ، هذا ما أَفادَهُ قولُهُ تعالى "منهم" أَيْ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ فِي حَالِ خَصَاصَةٍ وفاقَةٍ، فَاعْتَبِرْ بِهِمْ أَيْضًا كَيْفَ جَمَعَ اللهُ لَهُمُ الْكُفْرُ وَشَظَفُ الْعَيْشِ.
فبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِأَنَّهُ أَعْطاهُ أَعْظمَ النِّعْمَةِ، وَهِيَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ـ وَهَذَا أَعْظَمُ حَظٍّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَأَكْبَرُ نَصِيبٍ، يَنَهَاهُ ـ سُبْحَانَهُ، أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعَ بِهِ الْكُفَّارَ، لِأَنَّ مَنْ أُوتيَ النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ وَالْحَظَّ الْأَوْفَرَ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْأَخَسِّ الْأَحْقَرِ، لَأَنَّ هؤلاءِ إِنَّمَا أُوتوه اخْتِبَارًا و فِتْنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: مَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ فَمَدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى شَيْء مِنْهَا فَقَدْ صَغَّرَ الْقُرْآنَ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَاني} الآية: 87، السابقةَ منْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، وَقَوْلَهُ في سُورَةِ (طَهَ): {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الآية: 131، قَالَ: يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَأَوْرَدَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ. وَقد أَوْضَحَ ـ تَعَالَى، هذا المَعْنَى غَيْرَ مرَّةٍ في غيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فقَالِ فِي سُورَةِ (طه): {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} الآية:130.
وظاهِرُ هَذِهِ الْآيَةُ يَقْتَضِي الزَّجْرَ عَنِ التَّشَوُّفِ إِلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِقْبَالَ الْعَبْدِ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ وحَسْبُ. وَلَيْسَ الأمرُ كَذَلِكَ، فَقد رَوى أَحْمَدُ، والنَّسَائيُّ، وغيرُهُما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُم ثلاثٌ: الطِّيبُ النِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). مُسْنَد الإمامِ أَحمد: (ج/3/ ص: 128)، وسُنَنُ النَّسائي: (عُشْرَةُ النِساءِ، باب: 1)، وأَخرجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وأَبو يَعْلى، والحاكِمُ، وصحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ، والطبرانيُّ في مُعجمِهِ الأَكبَر ومُعْجَمِهِ الأَصْغَرِ، وَسِمَوَيْهِ، والضِياءُ المقدِسِيُّ، كلُّهم عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَكَانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَتَشَاغَلُ بِالنِّسَاءِ، جِبِلَّةَ الْآدَمِيَّةِ، وَتَشَوُّفَ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الطِّيبِ، وَلَا تَقَرُّ لَهُ عَيْنٌ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ لَدَى مُنَاجَاةِ الْمَوْلَى، وَيَرَى أَنَّ مُنَاجَاتَهُ أَحْرَى مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى. وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بالكُلِّيَّةِ، كَمَا كانَ في دِينِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَإِنَّمَا شَرَعَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ، حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً خَالِصَةً عَنِ الْحَرَجِ خَفِيفَةً عَلَى الْآدَمِيِّ، يَأْخُذُ مِنَ الْآدَمِيَّةِ بِشَهَوَاتِهَا وَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
ذَكَرَ العلَّامةُ الواحِدِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، في أَسبابِ النُزُولِ: (ص: 283)، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ الفَضْلِ مُرْسَلًا، أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وافَى مَعَ أَصْحابِهِ ـ رضوانُ اللهِ عليهِمْ، (أَذْرِعَاتَ)، فَرَأَى سَبْعَ قَوافِلَ لِيَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضيرِ، فِيها أَنْواعٌ البُرِّ، والطِّيبِ والجَوَاهِرِ، وسائرِ الأَمْتِعَةِ، فقالَ المُسْلِمُونَ: لَوْ كانَتْ هَذِهِ الأَمْوالُ لَنَا لَتَقَرَّبْنا بِها، وَلَأَنْفَقْناهَا في سَبيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُمْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَدْ أُعْطِيتُمْ سَبْعَ آياتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ السَّبْعِ القَوافِلِ)). وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ يَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيْرٍ أَبُو نَصْرٍ الطَّائِيُّ مَوْلاَهُم اليماميُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّ بِإِبِلِ حَيٍّ يُقَالُ لَهُم بَنُو المَلوحِ أَوْ بَنُو المُصْطَلِقِ قَدْ عَنَسَتْ فِي أَبْوالِها مِنَ السِّمَنِ، فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ وَمَرَّ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ: "لَا تَمُدَّن عَيْنَيْكَ" الْآيَةَ.
قولُهُ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَيْ: قَدْ بَلَّغْتَ يا رسُولَ اللهِ، وَلَسْتَ مَسْؤولًا عَنْهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ، وأَوْقَعُوا أَنْفُسَهم في غَضَبِ اللهِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لما ورَّطوا أَنفُسَهم فيهِ. وهذا نَهيٌ آخرُ لنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأَنْ لا يَحْزَنَ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ. وَكَثْيرًا ما وَرَدَ مثلُهُ في كتابِ اللهِ، كَقَوْلِهِ في سُورَةِ المائدةِ: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الآية: 68، كقولِهِ في سُورةِ الكهفِ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الآية: 6، وكقولِهِ في سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} الآية: 127، وَكقَوْلِهِ في سُورةِ الشُعراء: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآية: 3، وَقَوْلِهِ في سورةِ فاطر: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} الآية: 8. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فقدْ كانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، شديدَ الحزنِ دائمَهُ على الذينَ لم يؤمنوا بدعوتِهِ لأنَّهم إنَّما يهلكونَ بذلك أنفسَهمْ، لما أوْدعَ اللهُ في قلبِهِ الشريفِ مِنْ عظيمِ الرحمَةِ بعبادِهِ، حتَّى كادَ أَنْ ذْهَبَ نَفْسُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَالنَّهْيُ عَن الْحزن عَلَيْهِم شَامِلٌ لِكُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُحْزِنَ الرَّسُولَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتُؤْسِفُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُمْ كَمَا قَالَ في سُورَة الْكَهْف: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الآيةِ: 6.
قولُهُ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَمَرٌ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ جلَالُهُ العظيمُ، لِنَبِيِّهِ الكَريمِ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وعلى آلِهِ وصحْبِهِ وسَلَّمَ، بِأَنْ يَخْفِضَ جَنَاحَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ باللهِ ورَسُولِهِ. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ يَعَني التَّوَاضُعَ ولِينَ الْجَانِبِ، والمُعاملَةَ بالحسْنى، وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ" قَالَ: اخْضَعْ. وهُوَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْحَطَّ للهبوطِ حَفَضَ جَنَاحَهُ يُرِيدُ الدُّنُوَّ شيئًا فَشَيْئًا، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ إِذَا لَاعَبَ أُنْثَاهُ، أَوِ أَرادَ حَضْنَ فِرَاخِهِ، فَهُوَ رَاكِنٌ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالرِّفْقِ. وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَالْجَنَاحُ تَخْيِيلٌ. وَقد بَيَّنَ اللهُ تعالى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ منْ كِتَابِهِ الكَريمِ، فَقَالَ فِي الآية: 159، مِنْ سُورةِ آلِ عمْرانَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وقالَ في الآية: 215، مِنْ سُورةِ الشُّعَرَاءِ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَالَ العَلَّامَةُ الزَمَخْشَرِيُّ يُخَاطِبُ مَنْ تَكَبَّرَ بَعْدَ تَوَاضِعٍ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ................. فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا
وَيُفْهَمُ مِنْ هذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ يُعَامَلَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغِلْظَةِ والشِّدَّةِ وأَلَا يُخْفَضُ لَهُمُ الْجَنَاحُ، فقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} الآية: 73، من سورةِ التوبة، والآية: 9، مِنْ سورةِ التحريم، وَقَالَ في وَصْفِ المُؤمنينَ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية: 54، منْ سورةِ المائدة، وَقَال في الآية: 29، مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
قولُهُ تَعَالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} لَا: ناهِيَةٌ جازِمَةٌ، {تَمُدَّنَّ}: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوكيدِ الثَّقيلَةِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "لَا" الناهيَةِ، والنُّونُ نُونُ التَوْكِيدِ الثَّقيلَةُ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "عَيْنَيْكَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثنَّى، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَمُدَّنَّ"، و "مَا" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصوفَةٌ. و "مَتَّعْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو (نا) المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وهو ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، و "بِهِ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "متَّعنا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "أَزْوَاجًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "أَزْوَاجًا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّر. والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" أَوْ صِفَةٌ لَهَا.
قولُهُ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "لَا" ناهيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَحْزَنْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بـ "لا"، وفاعِلِهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، و "عَلَيْهِمْ" "على" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَحْزَنْ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ لا محلَّ لها مِنَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ "لَا تَمُدَّنَّ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً.
قولُهُ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} الوَاوُ: و "اخْفِضْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. و "جَنَاحَكَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصُوبٌ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ هو ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "لِلْمُؤْمِنِينَ" اللامُ: هي حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اخْفِضْ"، و "الْمُؤْمِنِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ قبلَها على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلٌّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.