الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الحجر، الآية: 78
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} الأَيْكَة: هيَ البُقْعَةُ كَثِيفَةُ الشَّجَرِ المُلْتَفِّ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، والمُخْضَرِّ كالسِدْرِ وغَيْرِهِ، قال قتادةُ، ورُوِيَ أَنَّ أَيْكَةَ هَؤُلاءِ كانَتْ مِنْ شَجَرِ الدومِ، وقِيلَ مِنَ المُقْلِ، وَقِيلَ مِنَ السِّدْرِ. وَالْأَيْكَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْغَيْضَةُ وَهِيَ جَمَاعَةُ الشَّجَرِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَيْكَةِ عَلَى الْغَيْضَةِ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُبيانيِّ:
تَجْلُو بِقَادِمَتَيْ حَمَامَةِ أَيْكَةٍ ................... بَرَدًا أُسِفَّ لِثَاتُهُ بِالْإِثْمَدِ
وقالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبي الصَّلْتِ:
كَبُكاءِ الحَمَامِ عَلَى غُصُونِ الأَيْـــ ............... ـــكِ في الطَّيْرِ الجَوَانِحِ
ومِنْ ذلكَ قوْلُ جَريرِ بنِ عطيَّةٍ:
وَقَفْتُ بِهَا فَهَاجَ الشَّوْقَ مِنِّي .............. حَمَامُ الأَيْكِ يُسْعِدُهَا حمامُ
ومِنْهُ قَوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ مِنْ قَصِيدَةٍ يَرْثي بِهَا نشيبةَ بْنَ محرّث:
مُوَشَّحَةٌ بِالطُّرَّتَيْنِ دَنَا لَهَا ................ جَنَى أَيْكَةٍ تَضْفُو عَلَيْها قِصَارُهَا
وقوْلُ الشاعِرِ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الأَنْدَلُسِيِّ صاحبِ العِقْدِ الفَريدِ:
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ أَيْكَةٍ ......... إِذا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ
وقالَ الشَّاعِرُ أَوْسُ بْنُ حِجْرٍ:
وَمَا خَلِيجٌ مِنَ المُرُوتِ ذُو حَدَبٍ .... يَرْمِي الضَريرَ بِعُودِ الأَيْكِ والضَّالِ
قولُهُ: المروتُ: الأرْضُ لا نباتَ فيها. و "الضَرير" جانبُ الوادي. وَجَمْعُ أَيْكةٍ: "أَيْكٌ". وَ "لَيْكَةُ" وَ "الْأَيْكَةُ" كَ "مَكَّةَ" وَ "بَكَّةَ" اسْمُ مَدِينَة قومِ نَبِيِّ اللهِ تَعَالى شُعَيْبٍ الذي تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مُوسَى ـ عَلَيِهِما السَّلامُ. وَ "أَصْحَابُ الأَيْكَةِ" وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمْ مَدْيَنُ. وَقِيلَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ، فَأَهْلُ مَدْيَنَ هُمْ سُكَّانُ الْحَاضِرَةِ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ بَادِيَتُهُمْ، وَكَانَ شُعَيْبٌ رَسُولًا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وسُمُّوا "أَصْحاب الأَيْكَةِ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ وَرِيَاضٍ، كانوا يَسْكُنُونها وَيَرْتَفِقُونَ بِهَا فِي مَعَايِشِهمْ، فبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ شُعَيْبًا، فَكَفَرُوا، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الحَرَّ، فَدَامَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثمَّ رَأَوْا سَحَابَةً، فَخَرَجُوا فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا فَاضطَّرَمَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا، قالَ الطَبَرِيُّ: بُعِثَ شُعَيْبٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِلَى أُمَّتَيْنِ كَفَرَتَا، فَعُذِّبَتَا بِعَذَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَهْلُ "مَدْيَنَ" عُذِّبوا بِالصَّيْحَةِ، وأَصْحابُ الأَيْكَةِ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لا يُظِلِّلُهم مِنْه ظِلٌّ، وَلا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ، فَحَلُّوا تَحْتَهَا يَلْتَمِسُونَ الرَّوْحَ فِيهَا، فَجَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ عَذابًا، بَعَثَ عَلَيْهِمْ نارًا فاضطَّرَمَتْ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْهُمْ، فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. جامع البيان: ت/شاكر: (17/124).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ عُذِّبُوا بِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ: أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فِي دَارِهِمْ حَتَّى خَرجُوا مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهَا أَصَابَهُم فَزَعٌ شَدِيدٌ فَفَرِقُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْبيُوتَ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِم، فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الظُلَّةَ، فَدَخَلَ تَحْتَهَا رَجُلٌ فَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ ظِلًّا أَطْيَبَ وَلَا أَبْرَدَ، هَلمُّوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَدَخَلُوا جَمِيعًا تَحْتَ الظُلَّةِ، فَصَاحَ فِيهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَمَاتُوا جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ" قَالَ: قوْمُ شُعَيْبٍ، و "الأَيْكَةِ" ذَاتِ آجَامٍ وَشَجِرٍ كَانُوا مُقيمينَ فِيهَا.
وَأَمَّا ظُلْمُهُمْ فَقدْ كَانَ بِشِرْكِهِمْ بِاللهِ ـ تَعَالى، وَبَخْسِهِمْ المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ، وَقَطْعِهِمُ الطَّرِيقَ عَلَى السَّابِلَةِ، فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ شُعَيْبًا فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَكَذَّبُوهُ، فانْتَقمَ اللهُ مِنْهم، فَعَذَّبَهُم، وَأَهْلَكَهُم، كَمَا كانتْ هيَ سُنَّتُهُ في الذينَ كفروا قَبْلَهُمْ.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، أَوْ عَاطفة. وَ "إِنْ" يَجُوزُ أَنْ تَكونَ عَامِلَةً فَتَكونُ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقيلَةِ، حرفٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، واسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ المحذوفِ، أَيْ وَإِنَّ الشَّأْنَ كانَ أَصْحابُ الأَيْكَةِ، وهذا هوَ مَذْهَبُ البَصْريِّينَ. و "كَانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. و "أَصْحَابُ" اسُمُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ. و "الْأَيْكَةِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "لَظَالِمِينَ" اللامُ المزحلقةُ للتوكيد (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، و "ظَالِمِينَ" خبرُ "كانَ" منصوبٌ بها، وعلامةُ النَّصْبِ الياءُ: لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، وجُمْلَةُ "كَانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إن" المُخَفَّفَةِ، وجُمْلَةُ "إِنْ" المُخَفَّفَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ "إِنْ" مُهْمَلَةً، فتُعربُ اللامُ فَارِقَةً، لأنَّها فرقتْ بينَ "إِنْ" المُخَفَّفَةِ و "إنْ" النَّافِيَةِ، فَهِيَ تَلْحَقُ المُخَفَّفَةَ.
قَرَأَ عامَّةُ الْقُرَّاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ (ق): {الْأَيْكَةِ} بِالتَّعْرِيفِ وَالْهَمْزِ وَكَسْرِ التَّاءِ. وَبِهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ فِي سورَتَيْ الشُّعَرَاءِ، وَ (ص). وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ "لَيْكَةِ" فيها جميعًا، بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ آخِرَهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا تَعْرِيفٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَمَنْ قَرَأَ: "أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ" فَهِيَ الْغَيْضَةُ، وَمَنْ قَرَأَ: "لَيْكَةِ" فَهِيَ اسْمُ الْقَرْيَةِ.