وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ
(14)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} عَلَيْهِمْ: أَيْ: لَهُمْ، فهوَ كَقَوْلِهِ في الآيةِ: 3، مِنْ سُورةِ المائدَة: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أَيْ: للنُّصُبِ. يَعْنِي لوْ فَتَحْنَا عَلَى المَلائِكَةِ بَابًا حَتَّى رَأَوْا، وعايَنُوا المَلائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّماءِ ويَصْعَدونَ. وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِإِبْطَالِ جَمِيعِ مَعَاذِيرِهِمْ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الصِّدْقِ بَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْتَحِلُونَ الْمَعَاذِيرَ الْمُخْتَلِفَةَ. ولِذَلِكَ يُخْبِرُ اللهُ ـ تَعَالى، عَنْ سَفَهِهم وعِنَادِهِم فِي سُؤالِهم الآياتِ والمُعْجِزاتِ؛ وطَلَبِهم نُزولَ المَلائِكَةِ بِقَوْلِهم في الآية: 7، السَّابِقَةِ: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فإنَّ سُؤَالَهمْ هَذَا سُؤَالُ مُتَعَنِّتينَ مُكابِرينَ؛ وليسَ بسؤالِ مُسْتَرْشِدينَ مُنْصِفينَ، وهوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيَةِ: 109، مِنْ سُورَةِ الأَنْعام: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، فَأَخْبَرَ في الآيةِ نَفْسِها أَنَّهم لَنْ يُؤْمنوا ولو جاءتْهُمُ الآيةُ فقالَ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}. فَقدْ جاءهمُ الحَقُّ ـ سُبْحانَهُ، هُنَا في هَذِهِ الآيةِ بِما هُوَ أَقْوَى مِمَّا طَلَبُوا، وَذَلِكَ لأَنَّ نُزُولَ مَلَكٍ مِنَ السَّمَاءِ ـ كَمَا طَلَبُوا، هوَ أَسْهَلُ بِكثيرٍ مِنْ أَنْ يُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ سُلَّمًا يَصْعَدونَ عَلَيْهِ، وَفي هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي الدَّليلِ؛ لَكِنَّهمْ ارْتَقَوْا أَيْضًا في الكُفْرِ والضَّلالِ فَقالُوا: لَإِنْ حَدَثَ ذَلِكَ فَلَسَوْفَ يَكُونُ مِنْ فِعْلِ السِّحْرِ.
قولُهُ: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} يُقالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا: إِذا فَعَلَهُ نَهَارًا. أَيْ: وَكَانُوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ، وَتَبَيُّنِ الْأَشْبَاحِ، وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي الْمَرْئِيِّ. وهُوَ مِنْ: ظَلَّ يَظَلُّ ظُلولًا، فَالْمَصْدَرُ: الظُّلُولُ. و "يَعْرُجُونَ" يَصْعَدونَ، وهو مِنْ عَرَجَ يَعْرُجُ، إذا صَعِدَ يَصْعَدُ. وَالْمَعَارِجُ الْمَصَاعِدُ. أَيْ: لَوْ صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَشَاهَدُوا الْمَلَكُوتَ وَالْمَلَائِكَةَ بأُمِّ أَعْيُنِهم، وعَايَنُوا نُزُولَ الآياتِ، لَأَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهم. أَوْ لو فُتِحَ لهمْ بابٌ في السَّماءِ لِيَرَوا بأُمِّ أَعْيُنِهم نُزُولَ المَلائِكَةِ وصُعُودَهم نهارًا جِهارًا لَمَا آمنوا بِكَ ولا برسالتِكَ. ولَن يُصَدِّقُوا ذَلِكَ بَلْ سيقولونَ: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} الآية: 15، من هذه السورةِ المُباركةِ. فقَدْ عَلِمَ اللهُ تعالى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُنْزِلْهُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنْ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعالَى: "وَلَو فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" يَقُولُ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ تَعْرُجُ فِيهِ، يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ، لَقَالَ أَهْلُ الشِّرْكِ: إِنَّمَا أُخِذَتْ أَبْصارُنا، وَشُبِّهَ عَلَيْنَا، وَسُحِرْنَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَو فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" قَالَ: رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: {لَو مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} مَا بَيْنَ ذَلِك، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَظَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ تَعْرُجُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِم, {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ} سُدَّتْ {أَبْصَارُنَا} قَالَ: قُرَيْشٌ تَقُولُهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، أَوْ للعَطْفِ، و "لو" شَرْطِيَّةٌ غَيْرُ جَازِمةٍ، و "فَتَحْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظَمِ نَفْسَهُ، و "نا" المُعَظَمِ نَفْسَهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ فِي مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، و "عَلَيْهِمْ" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَتَحْنَا"، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والمِيمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "بَابًا" مَفعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، و "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "بَابًا"، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لَوْ".
قولُهُ: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "ظَلُّوا" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُ "ظلُّوا"، وهذا الضَمِيرُ عائدٌ عَلَى الكُفَّارِ المُفَتَّحِ لَهُمُ البَابُ. والأَلِفُ الفَارِقَةُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى المَلائِكَةِ. و "فِيهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، و "يَعْرُجُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لَأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وجُمْلَةُ "يَعْرُجُونَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "ظَلَّ"، وجُمْلَةُ "ظَلُّوا" مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "فَتَحْنَا" عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لِـ "لَوْ".
قَرَأَ العامَّةُ: {يَعْرُجُونَ} بِضَمُّ الرَّاءِ، وقَرَأَ الأَعْمَشُ، والكِسائيُّ، وأَبُو حَيْوَةَ: "يَعْرِجونَ" بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ في عَرَجَ يَعْرِجُ.