إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(45)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أَيْ: فِي بَسَاتِينَ وأَنْهار. فَبَعْدَ أَنْ شَرَحَ ـ تَعالَى، أَحْوَالَ أَهْلِ الشَّقاءِ والْعِقَابِ، شَرَعَ بِوصْفِ أحوالِ أَهْلِ السَّعَادَةِ الثَّوَابِ، فَانْتَقَلَ مِنْ وَعِيدِ الْمُجْرِمِينَ، إِلَى بِشَارَةِ الْمُتَّقِينَ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ التي دَرَجَ عليها فِي التَّفَنُّنِ بالخِطَابِ. وَالْمُتَّقُونَ: هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالتَّقْوَى، وقدْ عَرَّفناها غيرَ مَرَّةٍ في غيرِ مكانٍ مِنْ هذا السِّفْرِ. والْمُرَادُ بِالمُتقينَ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ مَنِ اتَّقَوْا جَمِيعَ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ ـ في رأيِهم، اسْمُ مَدْحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ. وَقَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم، أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْكَفْرَ بِهِ، الخائفينَ مِنَ اللهِ المُوَحِّدينَ، الذينَ لَمْ يَتَّخِذوا لَهُ شَريكًا. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، فيما ذَكَرهُ الفَخْرُ الرَّازِي في تفسيرِهِ: (19/191)، الوَاحِدِيُّ في تَفسيرِهِ البَسيِط: (12/610)، وَالأَلُوسِيُّ في تَفْسيرِهِ: (14/56)، وَوَرَدَ بِنَحْوِهِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ فِي كلٍّ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ: (10/ 32)، وتَفْسيرِ الخازِنِ: (3/ 97). وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صوابيَّتِهِ هُوَ أَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ الْآتِي بِالتَّقْوَى مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا أَنَّ الضَّارِبَ هُوَ الْآتِي بِالضَّرْبِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْقَاتِلَ هُوَ الْآتِي بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ ضَارِبًا وَقَاتِلًا، كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِدْقِ الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّقْوَى، فالْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَكُونُ آتِيًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْآتِي بِالتَّقْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا، ويَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَّقِيًا. وَقدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ. وظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" يَقْتَضِي حُصُولَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ لِكُلِّ مَنِ اتَّقَى عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا الحُكْمِ. فقَوْلُهُ: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) قَوْلًا وَاعْتِقَادًا، سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ. والْجَنَّاتُ أَرْبَعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 46، منْ سورةِ الرَّحْمَنِ: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} ثُمَّ قالَ: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ أَرْبَعَة. أَمَّا الْعُيُونُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ (مُحَمَّد) ـ عَلَيْهِ الصّلاةُ والسّلامُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} الآية: 15، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ يَنَابِيعَ مُغَايِرَةً لِتِلْكَ الْأَنْهَارِ، واللهُ تعالى أَعْلَمُ. وَالْعُيُونُ: جَمْعُ عَيْنٍ، وهو اسْمٌ لِثُقْبٍ في الأَرْضِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنهُ. فَقَدْ يَكُونُ انْفِجَارُهَا طبيعيًّا نَتيجَةَ ضَغْطِ الماءِ المُتَجَمِّعِ فِي باطِنِ الأَرْضِ، وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. و "الْمُتَّقِينَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِهِ، و "جَنَّاتٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "وَعُيُونٍ" الواوُ: حرفُ عطْفٍ، ومَعْطوفٌ عَلَى "جَنَّاتٍ" مجرورٌ مثله، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.