الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الحجر، الآية: 72
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} المعنى: يقسِمُ اللهُ تعالى بحياةِ نَبِيِّهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، أَنَّ هؤلاءِ المشركينَ إنَّما يتخبطونَ ويتردَّدونَ في ضَلالِهمْ وعَمَاهُم. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهمْ يَعْمَهُونَ" قَالَ: لَفِي ضَلالِهِمْ يَلْعَبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهمْ يَعْمَهُونَ" قَالَ: لَفِي غَفْلَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
وفي قَسَمِ رَبِّ العَالَمِينَ بِعُمْرِ نبيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، غايَةُ التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ وشَخْصِهِ الكريمِ، وما أَقْسَمَ اللهُ تعالى بحاءِ أَحِدٍ غيرِ نبيِّهِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا حَلَفَ اللهُ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ" وَحَيَاتِكَ يَا مُحَمَّد. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والحَرْثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَعًا فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: مَا خَلَقَ اللهُ، وَمَا ذَرَأَ، وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرَهُ، قَالَ: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ" يَقُولُ: وَحَيَاتِكَ يَا مُحَمَّدُ وَعُمْرِكَ وَبَقَائِكَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلُهُ: "لَعَمْرُكَ" قَالَ: لَعَيْشُكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لَعَمْرِي، يَرَوْنَهُ كَقَوْلِهِ: وحَيَاتِي. وَالْمُخَاطِبُ هُوَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وَقِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ الكِرَامِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ. أَمَّا الْمُخَاطَبُ فهُوَ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ ـ عَلَيْهِ صَلَواتُ اللهُ وَسَلامُهُ، والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِلْعِبْرَةِ فِي عَدَمِ جَدْوَى الْمَوْعِظَةِ فِيمَنْ يَكُونُ فِي سَكْرَةِ هَوَاهُ.
وَ "عَمْرُكَ" الْعَمْرُ ـ بِفَتْحِ الْعيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ: هُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُكَ قَسَمِي. وَهُوَ فِي الأَصْلِ لُغَةٌ فِي "الْعُمْرِ" ـ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وقد خُصَّ مَفْتُوحُ العينِ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِخِفَّتِهِ، لِأَنَّ الْقَسَمَ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي الْكَلَامِ. وَسُمِّيَ الرَّجُلُ "عُمَرًا" تَفَاؤُلًا أَنْ يَبْقَى، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو ابْنِ أَحْمَرَ الباهِلِيِّ:
ذَهَبَ الشَّبَابُ وَأَخْلَقَ الْعُمْرُ ................... وتَغيَّرَ الإخوانُ والدَّهْر
وَعَمَّرَ الرَّجُلُ يُعَمِّرُ عَمْرًا وَعُمْرًا، وَإِذَا دَخَلَتْ لَامُ الْقَسَمِ على "عَمْرَكَ" فِي الِاسْتِعْمَالِ رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وحُذِفَ خَبَرُهُ وُجُوبًا. وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكونُ حْذَفُ الْخَبَرِ فِيهَا لَازِمًا عِنْدَ الْعَرَبِ وذلك اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِغَيْرِ اللَّامِ فَيُقْرَنُ حِينَئِذٍ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَيُنْصَبُ، كَما في قَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلًا ..................... عَمْرَكَ اللهُ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما اسْتَقَلَّتْ .................... وَسُهَيْلٌ إِذا اسْتَقَلَّ يَمانِي
فَنُصِبَ "عَمْرَ" بِنَزْعِ الْخَافِض، وَهُوَ يَاء الْقَسَمِ، وَنُصِبَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ، أَيْ بِتَعْمِيرِكَ اللهَ، بِمَعْنَى بِتَعْظِيمِكَ اللهَ، أَيْ قَوْلِكِ للهِ لَعَمْرِكَ تَعْظِيمًا للهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِاسْمِ أَحَدٍ تَعْظِيمٌ لَهُ، فَاسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْقَسَمِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ التَّحِيَّةِ فِي كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ "التَّحِيَّاتُ للهِ" كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ أَيْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِتَعْظِيمِكَ رَبَّكَ.
وَ "سَكْرَتِهِمْ" السَّكْرَةُ: ذَهَابُ الْعَقْلِ. وهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّكْرِ ـ بِفَتْحِ السِّينِ، وَهُوَ الْغَلْقُ والسَّدُّ، وَقد أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الضَّلَالِ، وذلكَ تَشْبِيهًا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الْهَوَى عَلَى دَوَاعِي الرَّشَادِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ وَغَشْيَتِهِ.
و "يَعْمَهُونَ" يَتَحَيَّرُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. فالعَمَهُ التَّرَدُّدُ في الضَلالَةِ والتَّحَيُّرِ فِي مُنازَعَةٍ أَوْ طَريقٍ، والعَمَهُ أيضًا: هوَ أَن لا يَعْرِفَ المَرْءُ الحُجَّةَ، و لا يَدْري أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، فَالعَمَهُ في البَصِيرَةِ كالعَمَى في البَصَرِ، وَرَجُلٌ عَمِهٌ عامِهٌ، أَيْ: يتَرَدُّدُ مُتَحيِّرًا، لا يَهْتَدِي لِطَريقِهِ ومَذْهَبِهِ، والجَمْعُ "عَمِهون" و "عُمَّهٌ"، وَقدْ "عَمِهَ" و "عَمَه" يَعْمَهُ "عَمَهًا" و "عُمُوهًا" و "عُمُوهةً" و "عَمَهانًا"، إِذا حادَ عَنِ الحَقِّ، وَفي حَديثِ أَميرِ المُؤمنينَ، عَلِيِّ بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكَرَّمَ وَجْهَهُ، قوْلُهُ: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُون؟)، وقالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى تَعْمَهْ إِلَى عُثْمانَ تَعْمَهْ ............... إِلَى ضَخْمِ السُّرادِقِ والقِبابِ
وَقَالَ الشاعِرُ الرَّاجِزُ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ:
ومَهْمَهٍ أَطْرافُهُ في مَهْمَهِ ................ أَعْمَى الهُدَى بالجَاهِلِينَ العُمَّهِ
قولُهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} اللامُ: لامُ القَسَمِ حَرْفُ ابْتِداءٍ. و "عَمْرُكَ" مرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، ومِثْلُهُ: لَأَيْمُنُ اللهِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والخَبَرُ مَحْذوفٌ وُجُوبًا فقد سَدَّ مَسَدَّهُ جَوابُ القَسَمِ، والتَقْديرُ: لَعَمْرُكَ قَسَمِي، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِنَّهُمْ" إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "لَفِي" اللامُ: المُزَحْلَقَةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ" و "سَكْرَتِهِمْ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ: علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ. وجُمْلَةُ "إنَّ" جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، و "يَعْمَهُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، وَجُمْلَةُ "يَعْمَهُونَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَمِيرِ المُسْتَكِنِّ إِمَّا في الجَارِّ والمَجْرُورِ. وإِمَّا مِنَ الضَمِيرِ المَجْرورِ بالإِضافَةِ. والعامِلُ: إِمَّا نَفْسُ "سَكْرَة" لأَنَّها مَصْدرٌ، وَإِمَّا مَعْنَى الإِضافَةِ.
قرَأَ العامَّةُ: {إِنَّ} بِكَسْرِ لِوُقُوعِ اللَّامِ فِي خَبَرِهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنِ العَلاءِ في رِوَايَةِ الجَهْضَمِيِّ بِفَتْحِها. وَتَخْريجُها عَلَى زِيَادَةِ اللَّامِ وَهِيَ كَقِراءَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ في سُورةِ الفُرقانِ: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَعَامَ} الآية: 20، "أَنَّهم" بِالفَتْحِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {سَكْرَتِهِمْ}، وَقَرَأَ الأَعْمَشُ "سَكْرِهِمْ" دُونَ تَاءٍ. وَقرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "سَكَراتِهم" بالجَمْعِ. وقَرَأَ الأَشْهَبُ "سُكْرَتِهم" بِضَمِّ السِّينِ.