الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 60
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} إِلَّا امْرَأَتَهُ: اسْتِثْناءٌ مِنْ {آلَ لُوطٍ}، أوْ مِنْ ضَمِيرِهم، فقد اسْتَثْنَى مِنْ آلِ لُوطٍ امْرَأَتَهُ لأَنَّها كَانَتْ كَافِرَةً فَالْتَحَقَتْ بِالْمُجْرِمِينَ فَهَلَكتْ مَعَهُمْ. وآلُ الرَّجُلِ أَيضًا أَتْبَاعُهُ؛ قالَ تَعَالى في الآية: 248، مِنْ سورةِ البَقَرَة: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُون} وقال في الآية: 52، مِنْ سورةِ الأَنْفالِ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم}، وقالَ في سورةِ آلِ عمرن: {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَان} الآية: 33، وإِنَّما المقصودُ أَتْبَاعُهم، فَكُلٌّ يَرْجِعُ إِلى أَتْبَاعِهِ، ولِذَلِكَ قَالَ العُلَمَاءُ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ)، تَشْمَلُ أَتْباعَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كلَّهم. و "قَدَّرْنَا" قَضَيْنَا وَكَتَبْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ. وَأَصْلُهُ: أَيْ: قَدَّرْنَا بَقَاءَهَا مِنَ الأَصْلِ. وَيَتَضَمُّنُ هَذَا الفِعْلُ مَعْنَى العِلْمِ، فلِذَلِكَ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى "قُلْنا" لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِمَعْنَى القَضَاءِ. وأَصْلُ التَّقْديرِ جَعْلُ شَيْءٍ عَلَى مِقْدارِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ، يُقالُ: قَدِّرْ هَذَا الشَّيْءَ بِهَذَا، أَيْ: اجْعَلْهُ عَلَى مِقْدارِهِ، وَقَدَّرَ الإِلَهُ الأَقْوَاتَ، أَيْ: جَعَلَهَا عَلَى مِقْدارِ الكِفَايَةِ، والتقديرُ أَيضًا: القَضَاءُ؛ يُقالُ: قَضَى اللهُ كَذَا عَلَى فُلانٍ، وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ؛ أَيْ: جَعَلَهُ عَلى مِقْدارِ مَا يَكْفِي إِنْ فِي الخَيْرِ وإِنْ في الشَّرِّ، وَقِيلَ إِنَّ مَعنَى قَدَّرْنَا هاهُنَا: كَتَبْنا، وقيلَ المعنى: دَبَّرْنَا، يُقَالُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وقَدَرْتُهُ، ومِنْهُ قوْلُ الشاعرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الهُذَلِيُّ:
ومفْوِهَةِ عَنْسٍ قَدَرْتُ لِسَاقِها ........... فَخَرَّتْ كَمَا تَتَّايَعُ الرِّيحُ بالقَفْلِ
يُريدُ الشَّاعِرُ أَنْ يَقُولَ في هَذَا البَيْتِ: قَدَّرْتُ ضَرْبَتِي لِسَاقِهَا فَضَرَبْتُها فَخَرَّتْ. وقالَ أَبُو بَكْرِ الأَصَمُّ: (قَدَّرْنَا) أَيْ: أَخْبَرْنَا. وهَذَا احْتِيَالٌ مِنْهُ عَلَى تَقْوِيَةِ مَذْهَبِ الاعْتِزالِ؛ لأَنَّهم يُنْكِرُونَ أَنْ تَكونَ أَفْعالُ العَبيدِ مَخْلُوقَةً للهِ تعالى، والآيةُ واضِحةُ الدَلالَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ العبادِ مَخْلُوقَةٌ للهِ تعالى، مُقَدَّرَةٌ لَهُ. فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: بَيْني وَبَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ هَذِهِ الْآيَة: "إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغَابِرينَ". وَ "الغَابِرينَ" الباقين، والْغَابِرُ: هو الْبَاقِي. ومِنْهُ قَوْلَ الحارثِ بْنِ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ مِنْ وَائِلٍ:
لَا تَكْسَعُ الشُّولُ بِأَغْبَارِهَا .................... إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ النَّاتِجِ
وبعدَهُ قَوْلُهُ:
واحْلِبْ لأَضْيافِكَ أَلْبَانَها ........................ فإنَّ شَرَّ اللَّبَنِ الوَالِجُ
قولُه: (لا تَكْسَعُ) الكَسْعُ: هوَ ضَرْبُ ضرْعِ النَّاقِةِ بِالماءِ البارِدِ لِيَجُفَّ لَبَنُها ويَتَرادَّ في ظَهْرِهَا فَيَكُونَ أَقْوى لَهَا عَلَى الجَدْبِ فِي العَامِ القابِلِ. والشُّولُ: جَمْعُ شَائِلَةٍ، والشائلَةُ مِنَ الإِبِلِ هيَ التي أَتَّى عَلَيْها مِنْ وَضْعِها حَمْلَهَا سَبْعَةُ أَشْهُرٍ فَخَفَّ لَبَنُها. والْأَغْبَارُ: جمْعُ الغُبْرُ: وهو بَقِيَّةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، يُقَالُ: بِالنَّاقةِ غُبْرٌ مِنْ لَبَنٍ، أَيْ بقيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ. وغُبْرُ الحَيْضِ: بَقايَاهُ. قالَ أَبُو كَبيرٍ عامِرُ بْنُ الحُلَيْسِ الهُذَلِيُّ:
ومُبَرَّاءٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ .................. وفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَداءِ مُغِيلِ
ويَقالُ أَيْضًا: غُبَّرُ المَرْضِ: أَيْ بَقَايَاهُ. وغُبَّرُ اللَّيْلِ بقيَّتُهُ. وغَبَرَ الشيءُ يَغْبُرُ، إِذا بَقِيَ. والغابِرُ: الباقي. والغابِرُ: الماضي، وهوَ مِنَ الأَضْدادِ. ويُقالُ: أَغْبَرَ الرَّجُلُ فِي طَلَبَ حَاجَتِهِ، إِذَا جَدَّ فِي طَلَبِها. وأَغْبَرَتِ السَّمَاءُ، إِذَا جَدَّ وَقْعُها واشْتَدَّ. وأَغْبَرَتْ: أَيْ أَثَارَتِ الغُبَارَ. وغَبِرَ الجُرْحُ (بكسرِ الباءِ) يَغْبَرُ غَبَرًا: الْتَأَمَ عَلى فَسَادٍ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ بَعْدَ ذَلِكَ. ومِنْه سُمِّيَ العِرْقُ الغَبِرُ، بِكَسْرِ الباءِ، لأَنَّهُ لا يَزَالُ يَنْتَفِضُ. وداهِيَةُ الغَبَرِ (بالتَحْريكِ): هِيَ العَظِيمَةُ التي لا يُهْتَدَى لَهَا. وَقالَ أَعْشى بَنِي حِرْمازٍ وهو أَعْوَرُ بْنُ قُرَادِ بْنِ سُفْيانَ، أَبو شَيْبانَ الحِرْمازِيُّ يَمْدَحُ الملِكَ المُنْذِرَ بْنَ مَاءِ السَّماءِ:
أَنْتَ لَهَا مُنْذِرُ مِنْ بَيْن البَشَرْ ................ دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وَصَمَّاءُ الغَبَرْ
فـ "مُنْذِر" مُنَادَى، يُريدُ: يا مُنْذِرُ. وَكَذَلِكَ غَبَّرَتْ تَغْبيرًا. وتَغَبَّرْتُ مِنَ المَرْأَةِ وَلَدًا. وكَمَا قَالَ العَجَّاجُ:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ ................. لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ
فقولُهُ: (ما غَبَرَ) أَيْ مَا بَقِيَ. وَلَمْ يَقُلِ الْمَلَائِكَةُ: قَدَّرَ اللهُ تَعَالَى، وأَسْنَدوا فِعْلَ التَّقْدِيرِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ ـ مَعَ أَنَّهُ للهِ تَعَالَى، فهو كَمَا يَقُولُ خَاصَّةُ الْمَلِكِ: دَبَّرْنَا كَذَا، وَأَمَرْنَا بِكَذَا، يُرِيدُونَ بِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارَ مَا لَهُمْ عندَ المَلِكِ منْ زُلفى، ومالهم مِنَ الاخْتِصاصِ بِالمَلِكِ، وَالْمُدَبِّرُ، وَالْآمِرُ في الحَقِيقَةِ إِنَّما هُوَ الْمَلِكُ لَا هُمْ، فَكَذَلكَ الأَمرُ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِاللهِ تَعَالَى، فهمْ مَلائكتُهُ المُقَرَّبُونَ الذينَ {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} الآية: 6، مِنْ سورةِ التحريم، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغَابِرينَ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ، وَ "امْرَأَتَهُ" مَنْصُوبٌ عَلَى الاسْتِثْناءِ مِنْ الضَّمِيرِ فِي {مُنَجُّوهم}، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ آلِ لُوطٍ. قالَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ: والاسْتِثْناءُ إِذا جاءَ بَعْدَ الاسْتِثْنَاءِ كانَ الاسْتِثْنَاءُ الثاني مُضَافًا إِلَى المُبْتَدَأِ كَقَوْلِكَ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا دِرْهَمًا، فإنَّ الدِّرْهَمَ يُسْتَثْنَى مِنَ الأَرْبَعَةِ، فَهُوَ مُضافٌ إِلَى العَشَرَةِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: أَحَدَ عَشَرَ إِلَّا أَرْبَعَةً، أَوْ عَشْرَةٌ إِلَّا ثَلاثَةً. وَقَدْ مَنَعَ الزَمَخْشَرِيُّ هذا فَقَالَ: فإنْ قُلْتَ: فقَوْلُهُ: "إِلَّا امْرَأَتَهُ" مِمَّ اسْتُثْنِيَ؟، وَهَلْ هوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنِ اسْتِثْناءٍ؟. قُلْتُ: مُسْتَثْنًى مِنَ الضَّميرِ المَجْرورِ في قَوْلِهِ {لَمُنَجُّوهُمْ} وَلَيْسَ مِنَ الاسْتِثْنَاءِ مِنَ الاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ؛ لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مِنَ الاسْتِثْنَاءِ إِنَّما يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الحكمُ فِيهِ، وَأَنْ يُقالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَهُ، كَمَا اتَّحَدَ في قَوْلِ المُطَلِّقِ لِزَوْجِهِ: أَنْتِ طالقٌ ثَلاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَقْولِ المُقِرِّ: لِفُلانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا، وَأَمَّا الآيَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الحُكْمَانِ لأَنَّ قولَهُ: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} مُتَعَلِّقٌ بـ {أَرْسَلْنا} أَوْ بـ {مُجْرِمِينِ}، وَ "إِلاَّ امرأتَهُ" قَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: {لَمُنَجُّوهم} فَأَنَّى يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنَ اسْتِثْناءٍ؟. قالَ الشَيْخُ أَبو حيان الأندلُسيُّ: ولَمَّا اسْتَسْلَفَ الزَمَخْشَرِيُّ أَنَّ "امْرَأَتَهُ" اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّميرِ فِي {لَمُنَجُّوهم} أَنَّى أَنْ يَكونَ اسْتِثْنَاءً مِنِ اسْتِثْناءِ؟، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنِ اسْتِثْناءٍ، فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ قَوْلِهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُما: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ "امرأتَهُ" مُسْتَثْنًى مِنَ الضَّميرِ فِي {لَمُنَجُّوهم} وَهوَ عائدٌ عَلَى آلِ لُوطٍ، صَارَ كَأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ آلِ لُوطٍ، لأَنَّ المُضْمَرَ هُوَ الظّاهِرُ. والوَجْهُ الآخَرُ: أَنَّ قَوْلَهَ {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهمْ بِغَيْرِ الحُكْمِ الذي حَكَمَ بِهِ عَلى {قوم مُجْرمين} اقْتَضَى ذَلِكَ نَجَاتَهم، فجَاءَ قولُه: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} تأْكيدًا لِمَعْنَى الاسْتِثْناءِ، إِذِ المَعْنَى: إِلَّا آلَ لُوطٍ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهم بالعذابِ، ونَجَاتُهُمْ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى عَدَمِ الإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ بالعَذابِ، فَصَارَ نَظيرَ قَوْلِكَ: قامَ القَوْمُ إِلَّا زَيْدًا لَمْ يَقُمْ، أَوْ إِلَّا زَيْدًا فإنَّهُ لَمْ يَقُمْ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَ الاسْتِثْناءُ مِنَ الحُكْمِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا بِضِدِّ الحُكْمِ السابقِ عَلَى المُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَـ "إِلَّا امْرَأَتَهُ" عَلَى هَذا التَقْريرِ الذي قَرَّرْناهُ مُسْتَثْنًى مِنْ آلِ لُوطٍ، لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مِمَّا جِيءَ بِهِ للتَأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ الاسْتِثْناءِ مِمَّا جِيْءَ بِهِ للتَأْكِيدِ. وَ "امْرَأَةَ" مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "قَدَّرْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" ضميرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمينَ، وَهو ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "إِنَّهَا" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيدِ، وَقَدْ كُسِرتْ همزَتُهُ مِنْ أَجْلِ اللامِ في خَبَرِهَا وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِمَا قَبْلَها، لأَنَّ فِعْلَ التَّقْديرِ يُعَلَّقُ إِجْراءً لَهُ مُجْرَى العِلْمِ: إِمَّا لِكَوْنِهِ بِمَعْنَاهُ، وإِمَّا لأَنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فإنْ قُلْتَ: لِمَ جازَ تَعْلِيقُ فِعْلِ التَّقْديرِ في قولِهِ "قَدَّرْنَا إِنَّهَا"، والتَعْلِيقُ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ القُلُوبِ؟. قُلْتُ: لِتَضَمُّنِ فِعْلِ التَقْديرِ مَعْنَى العِلْمِ. وقالَ الشَّيْخُ أبو حيَّان: وكُسِرَتْ همزةُ "إِنَّها" إِجْراءً لِفِعْلِ التَقْديرِ مُجْرَى العِلْم. وقالَ السمينُ الحلَبيُّ: وهَذَا لا يَصِحُّ عِلَّةً لِكَسْرِها، إِنَّمَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَعْلِيقِها الفَعْلَ قَبْلَهَا، والعِلَّةُ في كَسْرِها مَا قَدَّمْتُهُ فِي وُجُودِ اللامِ ولولاها لَفُتِحَتْ. فَإنَّ "إِنَّ" مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ قَدَّرْنا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولِهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ قَدَّرْنَا غُبُورُهَا، أَيْ ذَهَابُهَا وَهَلَاكُهَا. وَالتَّعْلِيقُ يَطْرَأُ عَلَى الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَيَقِلُّ فِي غَيْرِهَا. وَلَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهَا عَلَى التَّحْقِيقِ. و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، اسْمُهُ، و "لَمِنَ" اللامُ المزحلقةُ للتوكيدِ، و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ"، والتَقدير: إنَّها لكائنةٌ منَ الغابرين، و "الْغَابِرِينَ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وجُمْلَةُ "إنَّ" معَ اسمِها وخبرِها المحذوفِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُ "قَدَّرْنَا"، وَلَكِنَّها مُعَلَّقَةٌ عَنْهَا باللامِ، وجُمْلَةُ "قَدَّرْنَا" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ الاسْتِثْناءِ الذي قَبْلَها، فلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: {قَدَّرْنا} بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، مِنَ التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ شُعْبةُ بْنُ عَيَّاشٍ الأَسَدِيُّ الكُوفِيُّ عَنْ عَاصِمٍ "قَدَرْنا" بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، مِنْ قَدَرَ الْمُجَرَّدِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وكذلك قرأَ المُفضَّلُ، وَمِنْهُ قِراءَةُ ابْنِ كَثيرٍ الآيةَ: 60، مِنْ سُورةِ الواقعَةِ: {نَحْنُ قَدَرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}، بالتَخفيفِ.