الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 54
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} أَيْ قالَ المَلائكةُ الكِرامُ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الذي لا شَكَّ فِيهِ لأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، فقد بَشَّرْنَاكَ بِمَا هوَ كائنٌ لا مَحَالَةَ، وكَأَنَّهم ـ عليهِمُ السَّلامُ، قالوا لَهُ: لَسْنَا نَحْنُ الذين فعَلْنا ذَلِكَ بإرادتِنا، ولا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنا، ولَكِنَّا بَشَّرْناكَ بِأَمْرِهِ تَعَالى في أَمْرٍ شَاءَهُ اللهُ تَعَالى لَكَ.
قولُهُ: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} فَلا تَكُنْ مِنَ اليائسينَ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رضيَ اللهُ عنهُ: "مِنَ القَانِطِينَ" قَالَ: الآيِسِينَ.
ولَا يَدُلُّ قولُهم: "فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ" عَلَى أَنَّ سيِّدَنا إبراهمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَانَ قانِطًا، فلأنبياءُ معصومونَ منهُ لأَنَّ اليَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ مِنْ صِفَةِ إِبْلِيسَ والكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالى فِي سُورَةِ يوسُفَ ـ عليهِ السَّلامُ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون} الآية: 87، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي جَوَابِهِ لهمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} لكِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي شَيْءٍ، وَفَاتَ وَقْتُهُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَنِّ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُرَادِ فِيهِ، فَإِذَا بُشِّرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ عَظُمَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْقَوِيُّ كَالْمُدْهِشِ لَهُ، وَالْمُزِيلِ لِقُوَّةِ فَهْمِهِ وَذَكَائِهِ، فَلَعَلَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُضْطَرِبَةٍ حينَها مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعة: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والألفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "بَشَّرْنَاكَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نا" الجماعة، و "نا" ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ متصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، و "بِالْحَقِّ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ "بَشَّرْنَا"، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لـ "قَالُوا"، ويَضْعُفُ أَنْ يَكونَ حَالًا، أَيْ: بَشَّرْنَاكَ وَمَعَنَا الحَقُّ، كَمَا أَعْرَبَهُ بَعْضُهم.
قولُهُ: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} الفاءُ: حَرْفٌ للعَطْفِ وَالتَفْرِيعِ، و "لا" نَاهِيَةٌ جازِمَةٌ، و "تَكُنْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ ناقِصٌ مَجْزومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وأصْلُهُ "تكون" فحُذِفَتْ الواوُ لالتِقاءِ الساكِنِيْنِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِبْراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ، و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـخَبَرِ "تَكُنْ" و "الْقَانِطِينَ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، وجُمْلَةُ "تَكُنْ" مِنِ اسْمِها وخبرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "بَشَّرْنَاكَ"، عَلَى كَوْنِهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالُوا".
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيق الْأَعْمَشِ عَنْ يَحْيَى ابْنِ وثَّابٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "فَلَا تَكُنْ مِنَ القَنِطِينَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ.