فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
(29)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أيْ: فإذا عَدَّلْتُ صُورَتَهُ بِالصُّوَرِ الإِنْسَانِيَةِ الخَلْقِيَّةِ البَشَرِيَّةِ، وأَتْمَمْتُ خَلْقَهُ بِحيثُ يُصْبِحُ مُسْتَوِيًا مُعْتَدِلًا مُسْتَعِدًّا لِفَيَضَانِ الرُّوحِ فيهِ، فَتَسْوِيَةُ الشَّيْءِ تَعْدِيلُ ذَاتِهِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ التسْويَةُ هُنَا عَلَى اعْتِدَالِ الْعَنَاصِرِ فِي ذاتِ أَبِينا آدَمَ ـ عليْهِ السلامُ، وَاكْتِمَالِهَا فيها بِحَيْثُ صَارَتْ قَابِلَةً لِنَفْخِ الرُّوحِ.
قولُهُ: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أَيْ: صارَ هذا المخلوقُ الذي هوَ آدَمُ بَشَرًا حَيًّا بنفخِ الرُّوحِ، والروحُ جِسْمٌ لَطيفٌ اكتسَبَ الإنسانُ به الحياةَ، وفرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ سائرِ الأَحْياءِ بِهَذِهِ النَّفْخَةِ العُلْوِيَّةِ، ومنحَهُ خصائصَهَ الإنْسانِيَّةَ، فصارَ قابلًا للاتِّصالِ بالمَلَأِ الأَعْلى، وجَعَلَهُ أَهْلًا للاتِّصالِ باللهِ تَعَالى.
وَالنَّفْخُ: حَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ مَضْغُوطًا بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ كَالصَّفِيرِ، أو منْ غَيْرِ الشَفَتَيْنِ، وإِجْراؤهُ في تَجْويفِ جِسْمٍ صالِحٍ لإِمْسَاكِهِ والامْتِلاءِ بِهِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِوَضْعِ قُوَّةٍ لَطِيفَةِ السَّرَيَانِ قَوِيَّةِ التَّأْثِيرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فالمُرادُ التَمْثيلُ لإِفاضَةِ مَا بِهِ الحياةُ بالفِعْلِ عَلى المادَّةِ القابِلَةِ لَهَا، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَفْخٍ وَلَا مَنْفُوخٍ حَقيقَةً، وإِضافَةُ الروحِ إِلى الذاتِ العَظِيمَةِ الشَّريفَةِ تَشْريفٌ لُهُ. وهَذِهِ الإضافَةُ كإِضَافَةِ المُلْكِ إِلى مَالِكِهِ، أَيْ: مِنَ الرُّوحِ الذي هُوَ لِي، وخَلْقٌ مِنْ خَلْقي، فكَما قالَ تَعالى: أَرْضِي، وسَمَائي، وبَيْتي، ونَاقةَ اللهِ، وشَهر اللهِ، وهكذا.
وَإِسْنَادُ النَّفْخِ وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حَقَائِقَ الْعَنَاصِرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِتَفَاضُلِ آثَارِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الذَّاتِ أَوِ الرَّائِحَةِ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ كُلُّهُمْ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا يُلَائِمُ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ أَوْ يُنَافِرُهُ، وذَلِكَ تَبَعًا لِطِبَاعِ الْأَمْزِجَةِ أَوْ لِإِلْفِ الْعَادَةِ، وَلَا يُؤْبَهُ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، وهذِه الأُمُورِ نِسْبِيَّةٌ، فَمَا يَكونُ جَمِيلًا في نَظَرِكَ َقدْ يَكونُ قَبيحًا عنْدَ غَيْرِك، وما يُنْظَرُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ في زَمَانٍ وَمَكَانِ مَّا، قَدْ يُعْتَبَرُ شرًّا في وَقْتٍ آخَرَ أوْ مُجتمعٍ غَيْرِه. وَهَذَا هُوَ ضَابِطُ وَصْفِ الْقَذَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ، والجَمَالِ والقُبْحِ، والخيرِ والشرِّ عِنْدَ الْبَشَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنِيَّ يُسْتَقْذَرُ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ تَكْوِينَ نَوْعِهِ، وَمِنْهُ تَخَلَّقَتْ أَفَاضِلُ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الْمِسْكُ طَيِّبٌ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ لِمُلَاءَمَةِ رَائِحَتِهِ لِلشَّمِّ وَمَا هُوَ إِلَّا غُدَّةٌ مِنْ خَارِجَاتِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَزَالِ، قَالَ تَعَالَى في الآيات: (7 ـ 9) مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. وَهَذَا تَأْصِيلٌ لِكَوْنِ عَالَمِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ خَاضِعٍ لِعَالَمِ الْأَوْهَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ الشَّريفِ عنْ أبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ: ((لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)). أَخْرَجَهُ مَالكٌ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ، والبُخارِيُّ، ومُسلِمٌ والنَّسائيُ. وأَخْرَجَ البُخارِيُّ في صَحيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْك)) صحيحُ الإمامِ البُخاري: (4/22ـ (2803). وأخرجَهُ أيضًا الأئمَّةُ: مَالِكٌ في المُوَطَّأِ: (285)، والحُمَيدي: (1092)، وأَحمد: (2/242(7300)، ومسلم: (6/34)، والنَّسَائيُّ: (6/28) وفي الكبرى: (4340). وهذا كلُّهُ مؤكِّدٌ أَنَّ القيمَ التي توافَقَ عَلَيْها البَشَريَّةُ ليستْ حقيقيةً، ولا نهائيَّةً، وإنَّما هي نِسْبِيَّةٌ.
والروحُ روحانِ، أَو نَوْعانِ: روحٌ عُلْوِيٌّ، وروحٌ سُفْلِيٌّ. فالعُلْوِيُّ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ ـ تَعَالى، مُجَرَّدٌ مِنَ المَادَّةِ، مَقامُهُ فَوْقَ العَرْشِ، لِكَوْنِهِ أَلْطَفَ مِنْهُ، وهوَ خَمْسَةٌ بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ، وهيَ: القَلْبُ، والرُّوحُ، والسِّرُّ، والخَفِيُّ، والأَخْفَى، وَهيَ مِنْ لَطائفِ عَالَمِ الأَمْرِ كُلُّها وتُرَى بالنَظَرِ الكَشْفِيِّ. والسُّفْلِيُّ: وهو عبارة عن بُخارٍ لَطيفٍ يَنْبَعِثُ مِنَ العَنَاصِرِ الأَرْبَعَةِ الَّتي يَتَرَكَّبُ مِنْها جِسْمُ الإِنْسانِ ويُسَمَّى بالنَّفْسِ الإنسانيَّةِ، وقدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالى هذِهِ الرُّوحَ السُّفْلَى ـ التي هيَ النَّفْسُ، مِرْآةً للأَرْواحِ الخمسَةِ العُلْوِيِّةِ، وذلك كَمَا تَمْتَلِئُ الشَّمْسُ في المِرْآةِ فيَحْصُلُ فيها نُورُها وَحَرَارَتُها، ويَظْهَرُ فيها آثارُها مِنْ إِضاءَةٍ وإِحْراقٍ، وكذلِكَ الأَرْواحُ العُلْوِيَّةِ فإِنَّها مَعَ كَوْنِها عَلَى أَوْجِ تَجَرُّدِها تَمْتَلِئُ في النَّفْسِ السُفليَّةِ حتَّى تَظْهَرَ فيها آثارُها، وتِلْكَ الآثارُ هِيَ الأَرْواحُ الجُزْئِيَّةُ لِكُلِّ فَرْدٍ، ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ السُّفْلَى مَعَ مَا تَحْمِلُ مِنَ العُلْوِيَّاتِ تَتَعَلَّقُ بالمُضْغَةِ القَلْبِيَّةِ أَوَّلًا وتَفيضُ عَلَى القَلْبِ القُوَّةَ الحَيَوَانِيَّةَ والمَعَارِفَ الإنْسانيَّةَ المُكْتَسَبَةَ مِنَ الأَرْواحِ العُلْوِيَّةِ، ثُمَّ يَسْرِي حامِلًا لَها في تَجَاويفِ الشَّرايِينِ إِلى أَعْمَاقِ البَدَنِ، وقد سُمِّيَ ذَلِكَ بِالنَّفْخِ لِمُشَابَهَتِهِ بِنَفْخِ الرِّيحِ فِي الشَّيْءِ المُجَوَّفِ. ولَمَّا كانَ الرُّوحُ يَتَعَلَّقُ أَوَّلًا بالبُخَارِ اللَّطيفِ المُنْبَعِثِ مِنَ القَلْبِ، وتَفِيضُ عَلَيْهِ القُوَّةُ الحَيَوانِيَّةُ فَيَسْرِي في تَجَاوِيفِ الشَّرايِينِ إِلَى أَعْماقِ البَدَنِ، جُعِلَ تَعَلُّقُهُ بالبَدَنِ نَفْخًا. وقالَ حُجَّةُ الإسْلامِ الإمامُ الغَزَالِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَبَّرَ بالنَّفْخِ الذي يَكونُ سَبَبًا لاشْتِعالِ فَتِيلَةِ القابِلِ مِنَ الطِّينِ الذي تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الأَطْوارُ حَتَّى اعْتَدَلَ واسْتَوَى واسْتَعَدَّ اسْتِعْدادًا تَامًّا بِنُورِ الرُّوحِ، كَمَا يَكونُ سَبَبًا لاشْتِعَالِ الحَطَبِ القَابِلِ ـ مَثَلًا، بالنَّارِ عَنْ نَتِيجَتِهِ ومُسَبِّبِهِ، وهوَ ذَلِكَ الاشْتِعَالُ. وهَذِهِ الرُّوحُ ـ كَمَا يراهُ جَمَاعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ، لَيْسَ بِجِسْمٍ يَحِلُّ البَدَنَ كَحُلُولِ المَاءِ فِي الإناءِ ـ مَثَلًا، ولا هوَ عَرَضٌ يَحِلُّ القَلْبَ أَوِ الدِّماغَ حُلولَ السَّوادِ فِي الأَسْوَدِ، والعِلْمِ في العالِمِ، بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ لَيْسَ دَاخِلَ البَدَنِ، ولا خَارِجَهُ، ولا مُتَّصِلًا بِهِ، ولا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، ولَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ عِدَّةٌ نَقَلَها الإمامُ الأَلُوسِيُّ في تَفْسيرِهِ.
أَوَّلُها: أَنَّ الإنْسانَ يُمْكِنُهُ إِدْراكُ الأُمورِ الكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بارْتِسامِ صُوَرِ المُدْرَكاتَ في المُدْرَكِ، فَمَحَلُّ تِلْكَ الصُّوَرِ ـ إِنْ كانَ جِسْمًا، فإمَّا أَنْ يَحِلَّ غَيْرَ مُنْقَسِمٍ، أَوْ مُنْقَسِمًا، والأَوَّلُ مُحَالٌ، لأَنَّ الذي لا يَنْقَسِمُ مِنَ الجِسْمِ طَرَفُ نُقَطِيٌّ، والنُّقْطَةُ تَمْتَنِعُ أَنْ تَكونَ مَحَلًّا للصُّوَرِ العَقْلِيَّةِ، لأَنَّها مِمَّا لا يُعْقَلُ حُصُولُ المِزاجِ لَهَا حَتَّى يَخْتَلِفُ حَالُ اسْتِعْدادِهَا في القابِلِيَّةِ وعَدَمِها، بَلْ إِنْ كانَتْ قَابِلَةً للصُّوَرِ المَذْكورَةِ، وَجَبَ أَنْ يِكونَ ذَلِكَ القَبُولُ حاصِلًا أَبَدًا، ولَو ْكانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ المَقْبُولُ حاصِلًا أَبَدًا، لِمَا أَنَّ المَبَادِئَ الفَعَّالَةَ المُفَارِقَةَ عَامَّةَ الفَيْضِ، فَلا يَتَخَصَّصُ إِلَّا لاخْتِلافِ أَحْوالِ القَوَابِلِ، فلَوْ كانَ القابِلُ تامَّ الاسْتِعْدادِ، لَكانَ المَقْبُولُ وَاجِبَ الحُصُولِ، وحِينَئِذٍ يَكونُ جَميعُ الأَجْسامِ ذَواتِ النُّقَطِ عَاقِلَةً، ويَجِبُ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى البَدَنُ بَعْدَ المَوْتِ عاقِلًا لِبَقاءِ مَحَلِّ الصُّوَرِ عَلى اسْتِعْدادِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، والثانِي أَيْضًا مُحالٌ لأَنَّ الحَالَ فِي المُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكونَ تِلْكَ الصُّورَةُ مُنْقِسِمَةً أَبَدًا، وذَلِكَ مُحَالٌ لِوُجُوهٍ مُقَرَّرَةٍ فِيما بَيْنَهُمْ.
ثانيها: أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْقِلَ ذَواتِنَا وَكُلُّ مَنْ عَقَلَ ذاتًا فَلَهُ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الذاتِ، فإذًا لَنَا مَاهِيَّةُ ذِاتِنَا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكونَ تَعَقُّلُنا لِذاتِنَا لأَجْلِ صُورةٍ إِلى الجَمْعِ بَيْنَ المَثَلَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الثاني، وَكُلُّ مَا ذَاتُهُ حاصِلٌ لِذاتِهِ كانَ قائمًا بِذاتِهِ، فإذًا القُوَّةُ العاقِلَةُ ـ وهِيَ الرُّوحُ والنَّفْسُ النَّاطِقَةُ قائِمَةٌ بِنَفْسِها، وكُلُّ جِسْمٍ، أَوْ جِسْمَانِيٍّ فإنَّهُ غَيْرُ قائِمٍ بِنَفْسِهِ.
ثالِثُها: ما عَوَّلَ عَلَيْهِ (أَفْلاطونُ) وَهُوَ أَنَّا نَتَخَيَّلُ صُوَرًا لا وُجُودَ لَهَا في الخارِجِ، ونُمَيِّزُ بَيْنَها وَبَيْنَ غَيْرِهَا، فَهَذِهِ الصُّوَرُ أُمورٌ وُجُودِيَّةٌ ومَحَلُّها يَمْتَنِعُ أَنْ يَكونَ جِسْمانيًّا فإِنَّ جُمْلَةَ بَدَنِنَا بالنِسْبَةِ إِلى الأُمورِ المُتَخَيَّلَةِ لَنَا قَليلٌ مِنْ كَثيرٍ، فكَيْفَ تَنْطَبِقُ الصُّوَرُ العَظيمَةُ عَلى المَقاديرِ الصَّغيرَةِ؟. ولا يُمْكِنُ أَنْ يُقالَ: إِنَّ بَعْضَ تِلْكَ الصُّوَرِ مُنْطَبِعٌ في أَبْدانِنا، وبَعْضُها في الهواءِ المُحيطِ بِنَا، إِذِ الهواءُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ أَبْدانِنا، وَلا آلَةً لِنُفوسِنا في أَفْعالِها أَيْضًا، وهوَ ظَاهِرٌ، فمَحَلُّ هذِهِ الصُوَرِ ـ إذًا، شَيْءٌ غَيْرُ جِسْمانيٍّ، وذَلِكَ هوَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ.
رابعُها: لوْ كانَ مَحَلُّ الإدراكاتِ شَيْئًا جِسْمانِيًّا لَصَحَّ أَنْ يَقومَ بِبَعْضِ ذَلِكَ الجِسْمِ عِلْمٌ، وبِبَعْضِها الآخَرِ جَهْلٌ، فيَكونَ الشَّيْءُ الواحِدُ عالِمًا جاهِلًا بِشَيْءٍ واحِدٍ في حالَةٍ واحِدَةٍ.
الخامِسُ: أَنَّ الرُّوحَ لوْ كانَ مُطْبُوعًا في جِسْمٍ كقَلْبٍ أَوْ دِماغِ، لَكانَ إِمَّا أَنْ يَعْقِلَ دائِمًا ذَلِكَ الجِسْمَ أَوْ لا يَعْقِلَهُ، أَوْ يَعْقِلَهُ في وَقْتٍ دُونَ وَقتٍ، والأَقْسامُ باطِلَةٌ، فالقَوْلُ بانْطِباعِهِ باطِلٌ، وبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ تَعَقُّلَ الرُّوحِ لِذلِكَ الجِسْمِ إِمَّا أَنْ يَكونَ لأَجْلِ أَنَّ الآلَةَ حاضرةٌ عِنْدَهُ أَوْ لأَنَّ صُورَةً أُخْرَى مِنْ تِلْكَ الآلَةِ تَحْصُلُ لَهُ، فإِنْ كانَ الأَوَّلُ، فالرُّوحُ ـ إِنْ أَمْكَنَهُ إِدْراكُ تِلْكَ الآلَةِ، وإِدْراكُ نَفْسِ مُقارَنَتِها لَهُ، فمَا دامَتِ الآلَةُ مُقارِنَةً وَجَبَ أَنْ يَعْقِلَها الرُّوحُ فيَكونَ دائمَ الإِدْراكِ لِتِلْكَ الآلَةِ، وإِنِ امْتَنَعَ إِدْراكُ الآلَةِ عَلى الرُّوحِ وَجَبَ أَنْ لا يُدْرِكَها أَبَدًا، فَظاهِرٌ أَنَّهُ لَوْ كانَ تَعَقُّلُ الرُّوحِ لِتِلْكَ الآلَةِ لأَجْلِ المُقارَنَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْقِلَها دائمًا أَوْ لا يَعْقِلَهَا كَذَلِكَ، وكِلَا القِسْمَيْنِ باطِلٌ، وأَمَّا إِنْ كانَ تَعَقُّلُهُ لَهَا لِأَجْلِ حُصُولِ صُورَةٍ أُخْرَى مِنْها، فالرُّوحُ إِنْ كانَتْ في تِلْكَ الآلَةِ والصُّورَةِ الثانِيَةِ حاصِلَةً فِيهِ تَكونُ الصُّورَةُ الثانيَةُ للآلَةِ حالَّةً في الآلَةِ أَيْضًا لأَنَّ الحَالَّ في الحالِّ في الشَّيْءِ حَالٌّ في ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَلْزَمُ الجَمْعُ بَيْنَ المِثْلَيْنِ، وإِنْ لَمْ يَكُنِ الرُّوحُ في تِلْكَ الحالةِ بَلْ مُجَرَّدَةً فَهو المَطْلوبُ.
قولُهُ: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أَيْ: سُجُودَ تَحِيَّةٍ وتكريمٍ، واعْتِرافٍ بِعَظَمَةِ هَذا الخَلْقِ العَجيبِ، لا سُجُودَ عِبَادَةٍ. وَأَمْرُ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَا يُنَافِي تَحْرِيمَ السُّجُودِ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْإِشْرَاكِ وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ مِنْ تَطَرُّقِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ امْتَازَتْ بِنِهَايَةِ مَبَالِغِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، فَجَاءَتْ بِمَا لم تَجِئْ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ، لِأَنَّ اللهَ أَرَادَ بُلُوغَ أَتْبَاعِهَا أَوْجَ الْكَمَالِ فِي الْمَدَارِكِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ قَبْلُ مَحْظُورًا فَقَدْ سَجَدَ يَعْقُوبُ وَأَبْنَاؤُهُ لِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَانُوا أَهْلَ إِيمَانٍ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَلَا تُقَاسُ أَحْكَامُهُ عَلَى تَكَالِيفِ عَالَمِ الدُّنْيَا.
وقد يكونُ السُّجُودُ لآدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَيْثُ ظَهَرَتْ فِيهِ أَعاجِيبُ آثارِ قُدْرَتِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزَلَةِ القِبْلَةِ، كما تقولُ: صَلَّيْتُ للكَعْبَةِ، وإليها، فهو كقولِهِ تعالى في الآية: 78، مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ الليلِ} ولَيْسَتِ الصَّلاةُ للِدُّلُوكِ الشَّمْسِ؛ وإِنَّما هي للهِ تعال. وقالَ حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ الأَنْصَارِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ:
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكمْ ............. وأَعْلَم النَّاسِ بالقُرْآنِ والسُّنَنِ
وعليهِ فَالسُّجُودُ الذي أَمَرَ اللهُ بِهِ ملائكتَهُ إِنَّما كانَ للهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، وأَمَّا آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فقد كانَ القبلةَ التي أُمِروا بالتوجُّهِ إليها في ذلكَ السُّجُودِ، وفيهِ أَيْضًا مِنَ التَعْظِيمِ لِكَمَالِ خَلْقِهِ و التَكْريمِ لَهُ مَا لا يَخْفَى.
وَفِي أَمْرِهم بِالْوُقوعِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ المَأْمورَ بِهِ مُجَرَّدُ الانْحِنَاءِ ـ كَمَا قِيلَ، بَلِ السُّجُودُ بِالمَعْنَى المُتَبَادِرِ، فإِنَّ مَعْنَى "فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ" اسْقُطُوا سَاجِدِينَ لَهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ لِإِفَادَةِ نَوْعِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْوُقُوعُ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، كَما قَالَ تَعَالَى في سُورَة يُوسُف ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} الآية: 100. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِتَعْظِيمٍ يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ وَأَشْكَالَهُمْ تَقْدِيرًا لِبَدِيعِ الصُّنْعِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الدَّالِّ عَلَى تَمَامِ عِلْمِ اللهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ تَكْريمِ اللهِ ـ تَعَالى، لِعَبْدِهِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقدْ يكونُ قدْ كُرِّمَ بأَنواع أُخرى، وَلَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، أَنْ يُكْرِمَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شاءَ مِنَ الإنعامِ والإفْضالِ والتَكريمِ، وكَيْفَ شَاءَ، فلا رادَّ لحُكمِهِ ولا مُعَقِّبَ لأَمْرِهِ، وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قديرٌ.
وَفَاءُ التَعْقيبِ في "فَقَعُوا"، للإشْعارِ بِأَنَّ سُجودَهمْ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهم عَقِبَ التَسْوِيَةِ والنَّفْخِ مِنْ غَيْرِ إِبْطاءٍ أَوْ تَأْخِيرٍ.
قولُهُ تَعَالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} الفاءُ: للعَطْفِ و "إذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ، مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الظرفيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَضْمُونِ الجَوابِ، و "سَوَّيْتُهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتَّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ نَصْبِ مفْعولِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ لِـ "إذا" عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "نَفَخْتُ" مثلُ "سَوَّيْتُ"، مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. و "فِيهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَفَخْتُ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَفَخْتُ"، و "رُوحي"، مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ الياءِ لاشْتِغالِهِ بالحركةِ المناسِبَةِ للياءِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "إذا" الشَرْطِيَّةِ، و "قَعُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ. وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ، مَبَنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فَي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والألفَ للتفريق. و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَاجِدِينَ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في مَحلِّ الجْرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، و "سَاجِدِينَ" منصوبٌ على الحالِ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ في "قعوا"، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. وجُمْلَةُ "قَعُوا" جَوابُ "إذا" الشَرْطِيِّةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ "إذا" مِنْ شَرْطِها وجوابِها فَي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ {إنِّي} عَلَى كَوْنِها مَقُولَ القولِ لـ {قَالَ}.