وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ (28)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} واذْكُرْ وَقْتَ، أَوْ حَينَ قالَ ربُّكَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، للمَلائِكَةِ الكِرامِ ... ، وذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخلُقَ آدَمَ وحوَّاءَ ـ عَلَيْهِما الصلاةُ والسَّلامُ. فالخِطَابُ للرَّسُولِ محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومِنْ ثُمَّ لكُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ للخِطَابِ. فإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ـ تَعَالى جَدُّهُ، خَلْقَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ كَدلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ العَظِيمِ الحَكيمِ العَليمِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الخَالِقِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ وَاقِعَةَ هَذَا الخَلْقِ العظيمِ، ومُجْرَياتِها، ومَا حَصَلَ فِيها مِنْ حوادِثَ.
قولُهُ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} بَشَرًا: أَيْ: سَأَخْلقُ جِسْمًا كَثِيفًا يُبَاشِرُ وَيُلَاقِي، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ، وَالْجِنُّ فلَا يُبَاشِرُونَ، ذَلِكَ لِلُطْفِ أَجْسَامِهِمْ عَنْ أَجْسَامِ الْبَشَرِ، والبَشَرَةُ ظاهرِةُ الْجِلْدِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُ صَلْصَالًا مَنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذلِكَ في الآيةِ: 26، مِنْ هذه السورةِ المباركةِ. وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: المَعْنَى: سَنَّ ذُرِّيَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ. والَّذي يَتَرَتَّبُ فِي "مَسْنُونٍ" إِمَّا أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى: مَحْكُوكٍ، مُحْكَمِ العَمَلِ أَمْلَس السَّطْحِ، فَيَكونُ مِنْ مَعْنَى المِسَنِّ والسِّنَانِ، وَهو مِنْ قَوْلِهم: سَنَنْتُ السِّكينَ، وَسَنَنْتُ الحَجَرَ: إِذَا أَحْكَمْتُ تَمْلِيسَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ مِنَ الخَفيفِ:
ثُمَّ خَاصَرْتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الحَمْــ ............... ـــراءِ تَمْشِي في مَرْمَرٍ مَسْنُونِ
أَيْ مُحْكَمِ الإمْلاسِ بِالسَّنِّ، وإِمَّا أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى المَصْبُوبِ، كما تَقولُ: سَنَنْتُ التُرابَ، والماءَ، إِذا صَبَبْتَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ العاصِ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، لِمَنْ حَضَرَ وفاتَهُ: إِذَا أَدْخَلْتُمُوني فِي قَبْرِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرابَ سَنًّا. وعليهِ فَإنَّ مَعْنَى الآيَةِ: مِنْ حَمَأٍ مَصْبوبٍ بَعْضُهُ فَوقَ بَعْضٍ عَلَى مِثَالٍ وصُورَةٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمَادَّةَ الَّتِي مِنْهَا خُلِقَ الْبَشَرُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ شَرَفَ الْمَوْجُودَاتِ بِمَزَايَاهَا لَا بِمَادَّةِ تَرْكِيبِهَا.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "إذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، والتَقديرُ: واذْكُرْ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، و "قَالَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، و "رَبُّكَ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "لِلْمَلَائِكَةِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قال"، و "الملائكةِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "إذْ" إِلَيْها.
قولُهُ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} إِنِّي: "إِنْ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، والياء: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ. و "خَالِقٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "بَشَرًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ لاسمِ الفاعِلِ "خَالِقٌ". وَجُمْلَةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ". و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَالِقٌ"، و "صَلْصَالٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بمَحْذوفِ صِفَةٍ لِـ "صَلْصَالٍ"، و "حَمَأٍ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، و "مَسْنُونٍ" صفةٌ لهُ مجرورةٌ مثلهُ.